• عدد المراجعات :
  • 417
  • 1/31/2011
  • تاريخ :

المعاد في تجليات الفطرة

الورد

يقولون إنَّ معرفة النفس تنبع من الفطرة وجبلة الانسان. وإذا استطلعنا ضمير الانسان الواعي وغير الواعي لتبين لنا إيمانه وتعلقه بمبدأ فيما وراء الطبيعة، يراه هو الذي خلق هذا العالم وفق برنامج، ومن أجل هدف معين.

إلاّ أنَّ هذا لا يقتصر على "التوحيد ومعرفة الله"، فجميع أصول الدين وفروعه يجب أنْ تكون في الفطرة أيضاً، وإلاّ فإنَّ الانسجام بين اجهزة "التشريع" و"التكوين" لا يتحقق فتأمل!.

ولكننا إذا ألقينا نظرة فاحصة في قلوبنا واستطلعنا أعماق أرواحنا، لسمعنا بأذن أرواحنا تمتمة تقول: إنَّ الحياة لاتنتهي بالموت، لأنَّ الموت نافذة على عالم البقاء!

إنَّ التاريخ الذي يشهد بوجود الأديان على اختلافها عند الأقوام الماضية منذ أقدم الأزمنة، يشهد كذلك بأنَّ الانسان القديم كان يؤمن أيضاً "بالحياة بعد الموت".

 

ولكي تتجلى لنا هذه الحقيقة لابدّ لنا من التّنبه الى النقاط التالية:

1- حبّ البقاء

إذا كان الانسان قد خلق لكي يموت ويفنى، فلابدّ أن يحب الفناء وأنْ يستمتع بلذه الموت في نهاية عمره. ولكننا نشهد أنَّ ملامح الموت بمعنى العدم لم تكن في يوم من الايّام ممّا يثير البهجة في قلب الانسان، بل إنَّه بخلاف ذلك، يهرب من رؤية الموت بكل ما أوتي من قوّة.

هذه الحقيقة تؤكدها جهود الانسان التي يبذلها لإطالة عمره، وللبحث عن إكسير الشباب، وللعثور على ماء الحياة. إنَّ هذا التعلق بأذيال الحياة لدليل على أنَّنا قد خلقنا للبقاء لا للموت، إذ لو كنا قد خلقنا للفناء لما أحببنا الحياة الى هذا الحد.

إنَّ جميع أنواع الحبّ البناءة الكامنة في اعماقنا تعمل على ايصالنا الى الكمال والتكامل، ومن ذلك حبّ البقاء، فهو يكمل وجودنا.

لا تنسوا أنَّنا نتابع بحث "المعاد" بعد قبولنا بوجود اله حكيم عليم. إننا نؤمن بأنَّ كل ما أودعه الله في داخلنا كان لحكمة وحساب. ومن هنا لابدّ أنَّ تكون هناك حكمة في هذا الحب الذي نشعر به للبقاء، وما هذه الحكمة سوى وجود عالم يكون بعد هذا العالم.

 

2- يوم القيامة عند الماضين

إنَّ التاريخ الذي يشهد بوجود الأديان على اختلافها عند الأقوام الماضية منذ أقدم الأزمنة، يشهد كذلك بأنَّ الانسان القديم كان يؤمن أيضاً "بالحياة بعد الموت".

إنَّ الآثار الباقية من الانسان القديم، وخاصة من انسان ما قبل التاريخ، فيما يتعلق بطراز تشييد القبور، وطريقة دفن الاموات، تدل جميعاً على حقيقة كونهم معتقدين بالحياة بعد الموت.

وعليه لا يمكن اعتبار هذه العقيدة العميقة الجذور في تاريخ البشر عقيدة بسيطة، ولا كونها عادة لقنت لهم تلقينا.

إنَّنا كلما صادفنا في تاريخ الانسان عقيدة ذات جذور عميقة ومستمرة على امتداد العصور، أدركنا أنَّها عقيدة فطرية، إذ إنَّ الفطرة وحدها هي التي تستطيع أن تقاوم مرور الزمان والتقلبات الاجتماعية والفكرية المختلفة، وتبقى ثابتة. أمّا العادات والرسوم الخارجية فما أسرع أن تتبدل أو يلفها النسيان بمرور الزمان.

لقد أثبتت الدّراسات الدقيقة أن الاقوام الأولى البدائية من البشر كانت تؤمن بنوع من الأديان وذلك لأنهم كانوا يدفنون موتاهم بطريقة خاصة، ويدفنون معهم أدوات عملهم، وبهذا يمكن إثبات أنهم كانوا يعتقدون بوجود العالم الآخر"1

إنَّك اذ تلبس الطراز الفلاني من الملابس إنَّما أنت تساير العادات أو الرسوم المتبعة، وهذا سرعان مايعتوره التغيير والتبدل بتقادم الزمان وعوامل أُخرى كثيرة.

أمّا حبّ الأُم لطفلها فانَّه غريزة متمكنة جبلت عليها طبيعتها، لذلك لا ينتابه أي تبدل مهما تغيرت الظروف والأحوال، بل تظل شعلته ملتهبة، لا يخفف منه تعاقب الايّام، ولا يحول لونه غبار النسيان، وكل جاذبية نابعة من داخل الانسان فهي من الفطرة الكامنة فيه.

عندما يقول العلماء: "لقد أثبتت الدّراسات الدقيقة أن الاقوام الأولى البدائية من البشر كانت تؤمن بنوع من الأديان وذلك لأنهم كانوا يدفنون موتاهم بطريقة خاصة، ويدفنون معهم أدوات عملهم، وبهذا يمكن إثبات أنهم كانوا يعتقدون بوجود العالم الآخر"1.

ندرك أنَّ تلك الأقوام قد تقبلوا فكرة وجود عالم آخر بعد الموت، وإنَّ اخطأوا السبيل اليه، ظانين أنَّه لا يختلف بشي عن عالمهم الاول، وأنَّ الأدوات التي كانوا يستعملونها في الدنيا تنفعهم في العالم الآخر أيضاً.

 

3- محكمة "الضّمير" دليل آخر على فطرية المعاد.

إننا نشعر بكل وضوح أنَّ هناك في داخلنا محكمة تنظر في اعمالنا واقوالنا، تثيبنا على الحسنة منها، فنحسّ على أثر ذلك بالراحة والاطمئنان والهدوء النفسي والفرح والنشاط ممّا لا يتأتى لقلم أنْ يصفه.

كما أنَّها تعاقبنا على السيئةا، وعلى الأخص الذنوب الكبيرة، فعقابها يكون من الشدة والقسوة بحيث تحيل الحياة كالعلقم مرارة.

وكثيراً ما لوحظ أن مجرمين بعد أنْ يرتكبوا جريمة كبرى، كالقتل، ويفلتون من قبضة العدالة، يعودون ويسلمون أنفسهم الى المحكمة، ويصعدون المشانق طوعاً، قائلين إنَّهم يريدون الخلاص من عذاب الضمير.

وعندما يمعن المرء فكره في هذه المحكمة الباطنية ينتابه العجب: كيف يمكن أنْ يوجد في داخلي مثل هذه المحكمة، وأنا هذا الكائن الصغير؟

وبناء على ما تقدم نستطيع أنَّ نثبت بثلاثة طرق فطرية المعاد وبوجود عالم آخر بعد هذا العالم:

طريق حبّ البقاء.

وطريق التّاريخ الذي يؤكد إيمان البشر بهذه الفكرة منذ الأزمنة السحيقة.

وطريق المثال المصغر الموجود في باطن الانسان.

آية الله مكارم الشيرازي

--------------------------------------------------------------------------------

الهوامش:

1- علم الاجتماع، بقلم كينك، ص 194. 


 أشراط الساعة (1)

المعاد في الملل والشرائع السابقة

الإيمان وأحكامه (1)

أهمية معرفة العاقبة

المعاد يعطي الحياة مفهومها

الثاني: عدم التناسخ بين النفس والبدن

البعث في ميزان العدالة

 

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)