• عدد المراجعات :
  • 811
  • 11/8/2010
  • تاريخ :

برهان الإِمكان  ( 2 )

الورد

 تمثيلان لتقريب امتناع التسلسل

إذا أردْتَ أن تستعينَ في تقريب الحقائقِ العقْلية بالأمثلة الملموسة فهاك مثالين على ذلك

الأول: إنَّ كل واحدة من هذه المعاليل "التي نشير إليها بالإِشارة العقلية وإن لم نقدر على الإِشارة إليها عن طريق الحسّ لكونها غير متناهية" بحكم فقرها الذاتي، بمنزلة الصفر. فاجتماع هذه المعاليل بمنزلة اجتماع الأصفار. ومن المعلوم أنَّ الصِّفْر بإضافة صِفْر، بإضافة صِفْر، صِفْرٌ مهما تسلسل، ولا ينتج عدداً صحيحاً. فلأجل ذلك يحكم العقل بأنَّه يجب أن يكونَ إلى جانب هذه الأصفار عدداً صحيحاً قائماً بالنفس حتى يكون مصححاً لقراءتها، ولولاه لما كان للأصفار المجتمعة الهائلة أيُّ دور في المحاسبة، فلا يُقْرَأ الصفر مهما أُضيفَتْ إليه الأصفار.

الثاني: إنَّ القضايا المشروطة إذا كانت غيرَ متناهية وغيرَ متوقفة على قضية مطلقة، لا تخرج إلى عالم الوجود. مثلا إذا كان قيام زيد مشروطاً بقيام عمرو، وقيامُه مشروطاً بقيام بكر، وهكذا دواليك إلى غير النهاية، فلن يتحقق القيام عندئذ من أي واحد منهم أَبداً "كما إِذا شرط الأَول إِمضاءَه للورقة بإِمضاءِ الثاني، والثاني بإِمضاءِ ثالث وهكذا، فلن تُمْضَى تلك الورقة إلى الأبد" إلاَّ إِذا انتهت تلك القضايا إِلى قضية مُطْلَقَة بأَنْ يكونَ هناك من يقومُ أَو يمضي الورقة من دون أَنْ يكون فعلُه مشروطاً بشيء.

فهذه المعاليلُ المتسلسلة "بما أَنَّ وجودَ كلٍّ منها مشروط بوجودِ علة تتقدمه" تكون قضايا مشروطةً متسلسلةً غيرَ متناهية فلا تَخْرُجُ إلى عالم الوجود ما لم تصل إلى قضية مطلقَة، أَي إلى موجود يكون علةً محضةً ولا يكونَ وجوده مشروطاً بوجودِ علَّة أخرى، وعندئذ يكون ما فرضناه متسلسلا غير متسلسل، وما فرضناه غير متناه متناهياً.

فقد خرجنا بهذه النتيجة وهي أَنَّ فَرْضَ عِلَل ومعاليلَ غير متناهية، فرضٌ محال لاستلزامه وجود المعلول بلا علة. فيكون الصحيح خلافَه أَي انقطاع السلسلة، إذ لا واسطة بين الإِيجاب والسلب1.

إلى هنا تمت المقدمات التي لها دور فى توضيح برهان الإِمكان وإليك نفس البرهان.

 

 تقرير برهان الإِمكان

لا شك أَنَّ صفحة الوجود مليئة بالموجودات الإِمكانية بدليل أنها توجَد  وتفنى، ويطرأ عليها التبَدل والتغيّر، إلى غير ذلك من الحالات التي هي آيات الإِمكان وسمات الافتقار.

وهذه الموجودات الإمكانية، الواقعة في أفق الحس إمَّا موجودات بلا علة أَوْ لها علّة. وعلى الثاني فالعلّة إِمّا ممكنة أَوْ واجبة. ثم العلّة الممكنة إما أَنْ تكون متحققة بمعاليلها (أي الموجودات الإِمكانية)، أَوْ بممكن آخر.

فعلى الأَول "أي كونها موجودات بلا علة" يلزم نقضُ قانونِ العليّةِ والمعلولية وأنّ كلَّ ممكن يحتاج إِلى مؤثر. ومثلُ هذا لو قلنا بأن علَّتَها نفسُها، مضافاً إلى أَنَّ فيه مفسدةَ الدور.

وعلى الثاني "أى كونها متحققة بعلّة ممكنة والعلة الممكنةُ متحققةٌ بهذه الموجوداتِ الإِمكانية" يلزم الدور المحال.

وعلى الثالث "أي تحققها بممكن آخر وهذا الممكن الآخر متحقق بممكن آخر وهكذا" يلزم التسلسل الذي أَبطلناه.

وعلى الرابع "أَي كون العلة واجبة" يثبت المطلوب.

فاتضح أَنَّه لا يصح تفسير النظام الكوني إِلاّ بالقول بانتهاء الممكنات إلى الواجب لذاته القائم بنفسه، فهذه الصورة هي الصورة التي يصحَّحُها العقلُ ويَعُدُّها خاليةً عن الإِشكال. وأما الصور الباقية فكلها تستلزم المحال، والمستلزم للمحال محال.

فالقول بكونها متحققة بلا علة أَوْ كونِ علتِها نفسَها، يدفعه قانون العليّة الذي هو معترف به عند الجميع، كما أَنَّ القول بكون بعضها متحققاً ببعضها الآخر، وذاك البعضِ الآخر متحقق بالبعض الأَول يستلزم الدور. والقول بأَنَّ كلَّ ممكن متحققٌ بممكن ثان والثاني بثالث وهكذا يستلزم التسلسل.

فلم يبق إِلاّ القول بانتهاء الممكنات إلى الواجب بالذات، القائم بنفسه، المفيض للوجود على غيره.

 

بُرهانُ الإِمكان في الذكرِ الحكيم

إنَّ الذكرَ الحكيم طرح معارفَه وأصولَه مدعومة بالبراهين الجليّة، ولم يكتف بمجرد الدعوى بلا دليل، فهو كالمعلِّم يلقي دروسه على تلاميذه بالبينة والبرهان. فالإِستدلالُ بهذه الآياتِ ليس كاستدلال الفقيه بها على الفروع، فإنَّ الفقيه أثبَتَ أنَّ الوحيَ حجةٌ فأخَذَ بتفريعِ الفروع وإقامةِ الحُجَّةِ عليها من الوحي، بل الإِستدلال بها في هذا الموقف الذي نحن فيه كالإِستدلال بسائر البراهين الموروثة عن الحكماء والمتألهين. وقد أشار سبحانه في الآيات التالية إلى شقوق برهان الإِمكان.

فإلى أَنَّ حقيقةَ الممكن، حقيقةٌ مفتقرة لا تملك لنفسها وجوداً وتحقُّقاً ولا أيَّ شيء آخر، أشار بقوله: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ?(فاطر:15).

ومثله قوله سبحانه: ?وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَ أَقْنَى?(النجم:48).

وقوله سبحانه: ?وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ?(محمد:38).

وإِلى أنَّ الممكنَ، ومنه الإِنسان، لا يتحقق بلا علَّة، ولا تكون علَّتُهُ نفسَهُ، أَشار سبحانه بقوله: ?أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيء أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ?(الطور:35).

وإلى أَنَّ الممكن لا يصح أَنْ يكونَ خالقاً لممكن آخر بالأَصالة والإِستقلال ومن دون الإِستناد إِلى خالق واجب، أَشار سبحانه بقوله: ?أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَ الاَْرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ?(الطور:36).

فهذه الآيات ونظائِرُها تستدل على المعارف العقلية ببراهين واضحة ولا تتركها بلا دليل2.

 

 اشكال على برهان الامكان

إنَّ القول بانتهاء الممكنات إلى علة أزلية موجودة بنفسها، غير مخلوقة ولا متحققة بغيرها، يستلزم تخصيص القاعدة العقلية، فإنَّ العقل يحكم بأنَّ الشيء لا يتحقَّق بلا علّة. والواجب في فرض الإِلهيين شيءٌ متحقق بلا علّة، فلزم نقض تلك القاعدة العقلية.

والجواب على وجوه

الأول: إِنَّ هذا السؤال مُشْتَرَك بين الإِلهي والماديّ، فكلاهما يعترف بموجود قديم غير متحقق بعلة. فالإِلهي يرى ذلك الموجود فوقَ عالَمِ المادةِ والإِمكان، وأنَّ الممكناتِ تنتهي إليه. والماديُّ يرى ذلك الموجودَ، المادة الأولى التي تتحول وتتشكل إِلى صور وحالات، فإنها عنده قديمة متحققة بلا علة. فعلى كلٍّ منهما تجب الإِجابة عن هذا السؤال ولا يختص بالإِلهي3.

الثاني: إِنَّ القاعدة العقلية تختص بالموجودات الإِمكانية والظواهر المادية فإِنها "بما أنَّها مسبوقةٌ بالعدم" لا تنفك عن علة تخرجها من كَتْم العَدَمِ إِلى عالَمِ الوجود. ولولا العلة للزم وجود الممكن بلا علة، وهو محال.

وأما الواجب في فرض الإِلهيينَ فهو أزَلِيٌ قديمٌ غيرُ مسبوق بالعدم. وما هذا حاله غني عن العلة لا يتعلق به الجعل والإِيجاد، فإِنهما من خصائص الشي المسبوقِ بالعدم ولا يعمّان ما لم يسبِقْهُ العدم أبداً وكان موجوداً في الأزل.

والسائل لم يحلل موضوع القاعدة وزعم أنَّ الحاجة إِلى العلَّة من خصائص الموجود بما هو موجود مع أَنَّها من خصائص الموجود الممكن المسبوق بالعدم، والواجب خارج عن موضوع القاعدة خروجاً تخصصياً لا تخصيصياً، والفرق بين الخروجين واضح.

الثالث: إِنَّ القول بانتهاء الممكنات إلى موجود واجب متحقق بنفسه مقتضى البرهان العقلي الذي يحكم في سائر المجالات. فلا يصح الأَخذ بحكمه في مجال دون مجال.

فالعقل الذي يعترف بقانون العليّة والمعلوليّة يحكم بلزوم انتهاء الموجودات إلى موجود واجب. وقد عبّر الحكماء عن هذه القاعدة بقولهم: «كلُّ ما بالعَرَض لا بدَّ أن ينتهي إلى ما بالذات». كما استعانوا في توضيحه بأمثلة كثيرة معروفة في محلها، نحو: إنَّ كلَّ شيء مضاءٌ بالنور، والنور مضيءٌ بنفسه، وإنَّ حلاوة الأغذية الحلوة بالسّكر والسكر حُلْوٌ بنفسه، إلى غير ذلك من التقريبات العرفية.

 

 خاتمة المطاف

قَدْ تَعَرفْتَ على مقدّمات برهان الإِمكان وأنَّ الاستنتاج منه متوقفٌ على امتناع الدور والتسلسل، ولولا تسليم امتناع هذين الأمرين، لأصبح القياس عقيماً والبرهان غيرَ منتج. والذي نركز عليه هنا هو أنَّ كلَّ ما استُدِلَّ به على إثبات الصَّانع لا يكونُ منتجاً إلاَّ إِذا ثبت قَبْلَه امتناع الدور والتسلسل. ولولا هذا التسليم لكانت البراهين ناقصةً، غير مفيدة.

مثلا: إِنَّ برهان النظم الذي هو من أَوضح البراهين وأعمِّها لا يكون منتجاً ودالا على أنَّ للعالَم خالقاً واجباً، وأنَّ سلسلة الكون منتهيةً إليه، إلاَّ إذا ثبتَ قبلَه امتناعُ الدور والتسلسل. لأَنَّ النظام البديعَ آيةُ كونِه مخلوقاً لعلم وسيع وقدرة فائقة يعجز الإِنسان عن وصفهما وتعريفهما. وأَما كون ذلك العلم واجباً وتلك القدرة قديمة، فلا يثبتُ بذلك البرهان. إِذ من المحتمل أَنْ يكونَ خالقُ النّظام ممكناً مخلوقاً لموجود آخر وهكذا، إِما أَنْ يدورَ أوْ يتسلسل. فإِثباتُ كونِ النظامِ وسلسلةِ العللِ والمعاليلِ متوقفةً عند نقطة خاصّة هي واجبةٌ لا ممكنةً، غنية لا فقيرة، قائمةٌ بنفسها لا بغيرها، يحتاج إِلى تسليم امتناع الدور والتسلسل كما هو واضح، فكأنَّ المُسْتَدِلَّ ببرهان النظمِ أو سائر البراهين أخذ امتناعهما أصلا مسلماً عند الاستدلال بها.

* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني. ج 1 . ص61-72 .

--------------------------------------------------------------------------------

الهوامش:

1- إنّ بطلان التسلسل من المسالئل المهمة في الفلسفة الإلهية وقد طرحه الفلاسفة في أسفارهم وأثبتوا البطلان بحجج كثيرة تناهز العشر. ولكنَّ أكثرها غير مُقنع لأنهم استدلوا على البطلان بالبراهين الهندسية التي لا تجري إلا في الأمور المتناهية وما ذكرناه من البرهان؛ برهان فلسفي محض مقتبس من أصول الحكمة المتعالية التي أسسها صدر الدين الشيرازي وأرسى قواعدها تلامذة مرسته وأبرهم في العصر الأخير سيدنا الراحل المغفور له العلّامة الطباطبائي قدس سره.

2- كما أن فيها دلالة واضحة على أن التفكر المنطقي مما يتوخاه القرآن الكريم ويدعو البشرية إليه. ولو كانت الفلسفة بمعنى التفكر الصحيح والبرهنة المبتنية على المدعى، فقد فتح بابها القرآن الكريم.

3- والعجب أن الفيلسوف الإنكليزي "برتراند راسل" زعم اختصاصه بالإلهي وأن منهجه يستلزم وجود الشيء بلا علة وقد عرفت خلافه.


الدوافع الفطرية لمعرفة الله

الفطرة والعادة

أمثلة من نظام الخلق الدالة على وجود الله

معرفة الله في حياتنا

الطّرق إلى معرفة الله

برهان الإِمكان ( 1 )

ما هي جذور الدين في الفطرة الانسانية؟

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)