عبد الله بن مسعود ورحلة الإيمان المباركة - عبد الله بن مسعود و رحلة الإیمان المبارکة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

عبد الله بن مسعود و رحلة الإیمان المبارکة - نسخه متنی

محمد سلیمان

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید


عبد الله بن مسعود ورحلة الإيمان المباركة


أُعرف بـ (ابن مسعود)، اسمي عبد
الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، كنيتي أبو عبد الرحمن، وقد اختارها لي
رسول الله (صلى الله عليه وآله). أُمّي أمّ عبد الهذلي، كان أبي حليفاً لبني
زهرة. نشأتُ في مكّة، وعملتُ أجيراً أرعى غنماً لعُقبة بن أبي
مُعيط.

سمعتُ بدعوة رسول الله (صلى الله عليه
وآله)للإسلام، وكنتُ يومها غلاماً يافعاً، بعد أن قدم جمعٌ من عمومتي إلى مكة
فرافقتهم، وكان في بغيتهم شراء عطر، فأُرشدوا إلى العباس بن عبد المطلب الذي
كان جالساً عند زمزم، فجلسوا إليه، وجلستُ معهم. فبينا نحن عنده إذ أقبل رجل
من باب الصفا ... عليه ثوبان أبيضان، كأنه القمر ليلة البدر، يمشي على يمينه
غلام، حسنُ الوجه ...، تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها، حتّى قصد الحجر
فاستلمه، ثمّ استلمه الغلام واستلمته المرأة. طاف بالبيت سبعاً، والغلام
والمرأة يطوفان معه. ثمّ استقبل الركن، فرفع يديه وكبّر، وقامت المرأة
خلفهما، فرفعت يديها وكبّرت، ثمّ ركع فأطال الركوع، ثمّ رفع رأسه من الركوع،
فقنتَ مليّاً، ثمّ سجد وسجد الغلام معه والمرأة، يتّبعونه، يصنعون مثلما
يصنع، فرأينا شيئاً أنكرناه، لم نكن نعرفه بمكة. فأقبلنا على العباس، وقلنا:
يا أبا الفضل، إنّ هذا أمر لم نكن نعرفه
فيكم!

قال: أجل، والله، ما تعرفون
هذا؟

فقلنا: من يكون هؤلاء؟

قال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله،
والمرأة خديجة بنت خويلد امرأته، والغلام عليّ بن أبي طالب. أما والله ما على
وجه الأرض أحد نعلمه يعبد الله بهذا الدين إلاّ هؤلاء الثلاثة.

فعدتُ إلى عملي، وقد شُغلت نفسي بما رأت.
وما هي إلاّ أيام حتّى أتيتُ النبيَّ (صلى الله عليه وآله)، وأسلمتُ على يديه
مبكراً، فكنت من السابقين الأوّلين، حيث كنتُ سادس ستة ما على وجه الأرض
مسلمٌ غيرنا.

كما كنتُ أول مَن جهر بالقرآن الكريم بعد
رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مكّة. قرأت منه آيات بيّنات، فراحت تدوي
في سماء الكعبة، وأفق مكّة البعيد، بعد أن اجتمع ـ يوماً ـ أصحاب رسول
الله(صلى الله عليه وآله)، فقالوا: والله، ما سمعت قريش بهذا القرآن يُجهر
لهابه قطّ، فمن رجل يُسمعهموه؟ فقلت: أنا.

قالوا: إنّا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا
له عشيرة تمنعه من القوم إن أرادوه. فقلتُ: دعوني، فإنّ الله
سيمنعني.

وغدوت من فوري حتّى أتيتُ المقام في
الضحى، وما إن صرتُ على بعد خطوات من زعماء قريش، وهم في
أنديتهم حتّى صحتُ بصوت عال تجاوبت أصداؤه:
(بسم الله الرحمن الرحيم، الرحمن،
علم القرآن، خلق الإنسان، علّمه البيان ...)1 وأخذتُ أقرأ هذه السورة المباركة، فيما راح كلّ
زعيم من زعماء قريش ـ الذين ذهلوا وأُدهشوا، وكأن صاعقة نزلت عليهم من غرابة
ما يسمعون ـ يلتفت للآخر سائلا؟ ما يقول ابنُ أمّ عبد؟! ويأتيه الجواب: إنّه
يتلو بعض ما جاء به محمد. وفجأة أسرعوا نحوي وملامح الغضب الذي تملكهم قد
ارتسمت على وجوههم، ثمّ انهالوا عليَّ بأيديهم وعصيّهم، وقد غادرت الرحمة
قلوبهم، وأنا أقرأ دون توقف حتّى بلغتُ من السورة ما شاء الله أن أبلغ، ثمّ
انصرفتُ إلى أصحابي، وقد أُدمي رأسي من كثرة الجراح.

قالوا: هذا الذي خشينا عليك.

قلتُ: ما كان أعداءُ الله أهونَ عليَّ
منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها.

فقالوا: لا، حسبك، فقد أسمعتهم ما
يكرهون.

لقد كان زعماء الشرك يتربّصون الدوائر
بكلّ مؤمن بالإسلام، وبكلّ صادح بآيات القرآن الذي يطعن عقائدهم الضالة،
ويسفّه عقولهم، ولهذا تراهم لا يكتفون بإرسال عيونهم لمتابعتنا ومراقبتنا بل
يتابعوننا بأنفسهم. وأذكر أنّي ذهبتُ وسعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وخباب
بن الأرت، وسعيد بن زيد لنُصلي بعيداً عن عيونهم، في شعب من شعاب مكة، فإذا
بنفر من مشركي مكة منهم أبو سفيان بن حرب والأخنس بن شريق وغيرهما يطّلعون
علينا، سبونا وعابونا، فحدث بيننا وبينهم عراك، وكان بيد سعد بلحى جمل ضرب به
أحد رجالهم فشجّ رأسه، فكان أول دم أُريق منهم في الإسلام.

ولما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ما حلّ بنا من البلاء، وما يُصيبنا من العذاب على أيدي قريش، قال: «لو خرجتم
إلى أرض الحبشة، فإنّ فيها ملكاً لا يُظلَم أحدٌ عنده، وهي أرض صدق، حتّى
يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه». فكانت أول هجرة لي. وبعد عودتي منها
هاجرتُ إلى يثرب حيث كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد سبقنا إليها،
فنلتُ بذلك وسام الهجرتين، فوسام البدريّين عندما شاركت في معركة بدر الكبرى،
وكان النصر حليف المؤمنين وهم قلة، والهزيمة والذلّ نصيب المشركين وهم
كثرة.

وقد أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)
أن يُلتمس أبو جهل الذي أصابه معوّذ بن عفراء، فعدتُ إلى ساحة المعركة،
وأجلتُ نظري فيها، فوجدتُ أبا جهل في آخر رمق من حياته الآثمة، التي كان من
فصولها: الإعتداء على رسول الله(صلى الله عليه وآله) وتعذيب المؤمنين، وقتل
سميّة أمّ عمّار بن ياسر.

قلتُ له: الحمدُ لله الذي
أخزاك.

قال: وبماذا أخزاني .. لمن الدائرة
اليوم؟

قلت: لله ولرسوله.

ثمّ قال حين رآني على صدره أُريد قتله:
لقد ارتقيتَ مرتقًى صعباً يا رُوَيعيَ الغنم.

فقلت له: إنّي قاتلك يا أبا
جهل!

قال: لستَ بأول عبد قتل سيده! أما إن أشد
ما لقيته اليوم في نفسي لقتلك إياي، ألا يكون ولِّيَ قتلي رجلٌ من الأحلاف أو
من المطيبين.

فضربته ضربةً وقع رأسه بين يديه ...
وأقبلتُ برأسه وبسلاحه ودرعه وبيضته فوضعتها بين يدي رسول الله (صلى الله
عليه وآله) ، وقلتُ له: أبشر، يا نبيّ الله، بقتل عدوّ الله أبي
جهل.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
أحقّاً، يا عبد الله؟ فو الذي نفسي بيده، لهو أحبّ إليّ من حُمر النعم،
اللّهمّ قد أنجزت ما وعدتني فتمّم عليَّ نعمتك. وسجد شكراً لله، ثمّ شهد لي
بالجنة.

بعدها أمر النبي (صلى الله عليه وآله)
بوضع قتلى المشركين في القليب، وعندها تذكرتُ: أنّ النبي (صلى الله عليه
وآله) كان يُصلّي يوماً عند البيت، وأبو جهل وأصحابه له جلوس، إذ قال بعضهم
لبعض: أيّكم يجيءُ بِسَلى جزور بني فُلان، وقد نُحرت بالأمس، فيضعه على ظهر
محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط فجاء به، فنظر حتّى سجد
النبي (صلى الله عليه وآله)، وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظرُ لا أُغير
شيئاً، لو كان لي منعةٌ. فجعلوا يضحكون ويميل بعضهم على بعض، ورسول الله (صلى
الله عليه وآله) ساجد لا يرفع رأسه، حتّى جاءته فاطمةٌ بعد أن أسرعت امرأة
فأخبرتها، فطرحته عن ظهره، ورفع رأسه ثمّ قال: «اللّهم عليك بقريش) ثلاث
مرّات، فلما سمعوا صوته، شقّ عليهم، وخافوا دعوته، وكانوا يرونَ أنّ الدعوة
في ذلك البلد مُستجابة، ثمّ سمّى: (اللّهمّ عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن
ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي مُعيط)،
وعدّ السابع فلم أحفظه.

فو الذي نفسي بيده، لقد رأيتُ الذين عدّ
رسول الله (صلى الله عليه وآله) صرعى يوم بدر، ثمّ سحبوا إلى القليب، قليب
بدر. فنالوا بذلك جزاءهم العادل.

ووقعت معركة أُحد فكنت من
الذين استماتوا بالذب عن رسول الله(صلى الله عليه
وآله)والدفاع عنه أمام السيل المتدافع من مشركي قريش، الذي يستهدف قتل رسول
الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن حلّت بنا هزيمة بعد نصر، كان سببها مخالفة
الرماة أمرَ رسول:

«لا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نُقتل
فلا تنصرونا».

وما علمتُ أنّ أحداً من أصحاب
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يريد الدنيا حتّى نزلت هذه الآية
(منكم من يريد
الدنيا ومنكم من يريد الآخرة)2 في أولئك الرماة الذين تنازعوا أمرهم بينهم،
فريقٌ سال لعابه حين رأى الغنائم التي خلّفها المشركون وراءهم، فترك موضعه،
وفريق قليل ثبت مكانه امتثالا لأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) فاستشهد عن
آخره.

وفي معركة حنين، ركنّا إلى قوتنا
وكثرتنا، حتّى قال قائلٌ منّا: لن نُغلب اليوم من قلة، فشدّت كتائب العدو
علينا شدّة رجل واحد، وأصبنا بهزيمة مباغته أول القتال، فتفرّقت جموع
المسلمين الذين انتابهم الخوف والذعر، فيما راحت جماعة منّا تقدر بثمانين
رجلا من المهاجرين والأنصار، وكنت أحدهم تحيط برسول الله (صلى الله عليه
وآله)، الذي علا صهوة بغلته البيضاء وسط المعركة، وهو يصيح بالمنهزمين: إلى
أين أيها الناس؟ هلمّوا إليّ ـ هلمّوا إليّ ... أنا رسول الله، أنا محمد بن
عبد الله.

أنا النبيّ لا
كذب أنا بن عبد
المطلـب

اللّهمّ نزّل نصرك، اللّهمّ نزّل نصرك ... وإذا بالجموع
المنهزمة تعود إلى ساحة المعركة، وقد غطّت تكبيرتهم وتلبيتهم فضاء الوادي،
فكان النصر بعد الهزيمة، وكان الظفر بعد المذلة والهوان، وما
رجعنا إلاّ وقتلى المشركين
قدملأت ذلك الوادي،
أسراهم في الحبال عند رسول الله (صلى الله عليه
وآله).

ثمّ تعال معي ـ عزيزي ـ لنقرأ كيف صوّر
لنا القرآن الكريم هذهِ الواقعة أفضل تصوير بأعظم بيان.

(لقد نصركم الله في مواطن
كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تُغنِ عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض
بما رحبت ثمّ توليّتم مدبرين * ثمّ أنزل الله
سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذّب الذين كفروا
وذلك جزاء الكافرين *
ثمّ يتوب الله
من بعد ذلك على من يشاء والله غفورٌ رحيم)3.

وبدأ رسول الله (صلى الله عليه وآله)
بتقسيم غنائم حنين على المسلمين، وعندها سمعت رجلا يقول: إنّ هذه القسمة ما
عُدل فيها، ما أريد بها وجه الله.

فقلت؟ فمن يعدل إذا لم يعدل الله
ورسوله؟

وأتيتُ النبيَّ (صلى الله عليه وآله)
فأخبرتهُ، فتغيّر لونه حتّى ندمتُ على ما صنعت، ووددتُ أني لم
أخبره.

ثمّ قال (صلى الله عليه وآله): «رحم الله
موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر».

وأنزل الله تعالى:{ومنهم مَن يلمزك في الصدقات
فإن أُعطوا منها رضوا وإن لم يُعطوا منها إذا هم يسخطون}4
.

لقد شهدتُ مع رسول الله (صلى الله عليه
وآله)كلّ مشاهده، ولم أتخلّف عنه أبداً، ولا غرابة في ذلك، فلقد تشرّفت
بخدمته، ورافقته في حلّه وترحاله، حتّى صرتُ صاحب سرّه. قال لي رسول الله
(صلى الله عليه وآله): «إذنُكَ عليَّ أن تسمع سِوادي (سرّي)، ويُرفَعَ
الحجاب، حتّى أنهاك». فكنت ألجُ عليه، وأُلبسه نعليه، وأمشي معه، وأستره إذا
اغتسل، وأوقظه إذا نام، ولهذا كلّه ولغيره عرفتُ عند الصحابة بصاحب السواد
والسواك، وصاحب سرّ رسول الله. ولهذا أيضاً ترى بعضهم يعدّني وأُمّي من آل
النبيّ (صلى الله عليه وآله)لكثرة دخولنا عليهم ولزومنا لهم. قال فيّ الصحابي
الجليل حذيفة: «كان أقرب الناس هدياً ودَلا وسمتاً برسول الله (صلى الله عليه
وآله)ابن مسعود، حتّى يتوارى عنّا في بيته. ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد
(صلى الله عليه وآله) أنه من أقربهم إلى الله زلفاً». وكانت ملازمتي لرسول
الله فرصةً مباركة، نافعة لي، تزوّدت منه إيماناً وحكمة وأدباً، واستقيتُ منه
علماً ومعرفة، حتّى صرتُ فقيهاً في الدين، عالماً بالقضاء وأحكامه، عارفاً
بالقرآن وعلومه: ناسخه ومنسوخه، متشابهه ومحكمه ... تلقّيت كلّ ذلك من رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وبفضل وبركة صحبتي له. لقد أخذتُ من فيّ رسول الله
(صلى الله عليه وآله)بضعاً وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب رسول الله (صلى الله
عليه وآله) أنّي أعلمهم بكتاب الله. فما من كتاب الله سورة إلاّ أنا أعلمُ
حيث نزلت، وما من آية إلاّ أنا أعلم فيمَ أُنزلت، ولو أعلم أنّ أحداً أعلمُ
منّي لرحلتُ إليه، وما سمعتُ أحداً يردّ هذا عليّ ولا يعيبه. ولكنّي أذكر أن
رجلا قال لي يوماً: سمعتك تقول: «لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله منّي تبلغه
المطايا لرحلت إليه».

فقلتُ: نعم قلت: هذا.

فقال: فأين أنت عن عليّ.

قلت: به بدأتُ، إنّي قرأتُ
عليه.

وأضيف ـ أيضاً ـ أنّي قرأت سبعين سورة
على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وختمت القرآن على خير الناس بعده، عليّ
بن أبي طالب ... وأن القرآن أُنزل على سبعة أحرف، ما من حرف إلا وله ظهر و
بطن، وإن علي بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن.

كما كنت محبّاً للقرآن، حاملا له، عارفاً
بقراءاته، مجيداً لها، حسن الصوت به، وكنتُ أعدّ من القراء، ولفظة القراء هذه
لا تطلق إلاّ على نخبة قليلة تختصّ بقراءة القرآن، من بين عدد ممّن يعرفون
القراءة في مجتمعنا الذي غلبت عليه الأُميّة. وقد قال فيّ رسول الله (صلى
الله عليه وآله): «مَن سرّه أن يقرأ القرآن غضاً أو رطباً كما أُنزل فليقرأه
على قراءة ابن أُمِّ عبد» وأمّ عبد كنية أُمّي. وشهد لي عليّ (عليه السلام)
أنّي أوّل من قرأ آية من كتاب الله على ظهر قلب بقوله: «أول من قرأ آية من
كتاب الله عن ظهر قلبه ابن مسعود».

وكثيراً ما كان رسول الله (صلى الله عليه
وآله)يحب أن يسمع القرآن منّي، وذات مرّة قال لي: اقرأ عليّ يا عبد
الله.

قلتُ: أقرأ عليك، وعليك أُنزل يا رسولَ
الله؟

فقال (صلى الله عليه وآله): إنّي أُحبُّ
أن أسمعه من غيري.

فأخذتُ أقرأ من سورة النساء، حتّى إذا
بلغتُ قوله تعالى:

{فكيف إذا جئنا من كلّ أُمّة
بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً}فاضت عينا رسول الله (صلى الله
عليه وآله) من الخشوع والخشية والإخبات لله ولتنزيله.

ولطالما جاءني بعض الصحابة إلى بيتي
ليسمعو منّي قراءة القرآن وتفسيره; ولأن قراءتي هكذا كانت، ترى الحجاج بن
يوسف الثقفي والي العراق من قبل الأمويين، الذي عرف بمكره واشتهر بإجرامه
وتعطشه للقتل وتعذيب الناس، تراه يمنع قراءة القرآن كما قرأته، فيقول في ضمن
كلمة له يهدّد ويتوعد بها الناس: « ... ولا أجد أحداً يقرأ عليّ قراءة ابن
أمِّ عبد إلاّ ضربتُ عنقه ...».

وكنتُ من الذين نزلت فيهم:

{ولا تطرد الذين يدعون ربّهم
بالغداة والعشيّ يُريدون وجهه...}5 نزلت في ستة نفر وأنا واحد منهم، حينما كنّا
جلوساً عند رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فقال بعض زعماء قريش: إنّا لا
نرضى أن نكون أتباعاً لهؤلاء فاطردهم عنك. فأنزل الله هذه
الآية.

{ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا
أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلاّ قليل منهم}6 كنت من هذا القليل الذي استثناه
الله تعالى، فقد قلنا: والله لو أمرنا لفعلنا فالحمد لله الذي عافانا، فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ من أمتي رجالا، الإيمان في قلوبهم أنبت
من الجبال الرواسي.

{الذين استجابوا لله وللرسول من
بعد ما أصابهم القرح للَّذين أحسنوا منهم واتّقوا أجر عظيم}7، نزلت هذه الآية في الذين أجابوا
دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله)مع ما فيهم من جراح وآلام شديدة في يوم
أُحد، وكنت منهم، ندبنا الرسول (صلى الله عليه وآله)لنعود إلى المشركين
فنقاتلهم.

ولما نزلت {ليس على الذين آمنوا
وعملوا الصالحات جُناح فيما طَمِعوا إذا ما اتّقوا وآمنوا وعملوا
الصالحات}8.

قال رسول الله(صلى الله عليه
وآله) لي: أنت منهم. فكانت فرحتي بذلك عظيمة جداً.

* *
*

نلتُ شرف الرواية عن رسول الله (صلى الله
عليه وآله) حتّى تجدني في بعض الكتب الحديثية أُدعى بـ (عبد الله بن
المسعود الراوي)، فقد ورد لي في كتب الحديث الكثير من الروايات المتّفق على
صحّتها، كما أن جمعاً من أعيان الصحابة والتابعين روى عني. وما نقلتُ حديثاً
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتّى تغير لون وجهي، وانتفخت أوداجي،
وعلتني كآبة وانحدر عرقي من جبيني، ودمعت عيناي، وأقول في بداية نقلي للحديث:
أو قريباً من هذا، أو نحو هذا، أو شبه هذا. كلّ ذلك خوفاً من الزيادة
والنقصان، أو السهو والنسيان، فأكون قد حكيت عن رسول الله (صلى الله عليه
وآله)ما لم يقله، أو أدخل في الدين ما ليس منه. أذكر بعض ما
رويته:

* من صلّى صلاة لم يصل فيها عليَّ وعلى
أهل بيتي لم تقبل منه.

* سبابُ المسلم فسوق، وقِتاله
كفرٌ.

* سألتُ النبي (صلى الله عليه وآله):
أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: «الصلاةُ على وقتها». قلتُ: ثمّ أيُّ؟ قال
(صلى الله عليه وآله): «ثمّ برُّ الوالدين». قلتُ: ثمّ أيُّ؟ قال (صلى الله
عليه وآله): «الجهادُ في سبيل الله». حدّثني بهنّ، ولو استزدتهُ
لزادني.

* إنّ المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت
جبل يخافُ أن يقع عليه، وإنّ الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على
أنفه.

* إنّ الصدق يهدي إلى البر، وإنّ البرّ
يهدي إلى الجنّة، وإنّ الرجل ليصدق حتّى يكون صديقاً، وإنّ الكذب يهدي إلى
الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النار، وإنّ الرجل ليكذب حتّى يكتب عنه الله
كذاباً.

* سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يقول بحقّ الصحابي الجليل «أبو ذر الغفاري»: «يرحم الله أبا ذر يمشي وحده،
ويموت وحده، ويبعث وحده، ويشهده عصابة من المؤمنين» وكان ذلك في مسيره إلى
تبوك، حيث وقف بأبي ذر جملُهُ فتخلّف عليه، فلمّا أبطأ أخذ رحله عنه، وحمله
على ظهره، وتبع النبي (صلى الله عليه وآله) ماشياً، فنظر الناس وقالوا: يا
رسول الله! هذا رجل على الطريق وحده.

فقال (صلى الله عليه
وآله): كن أبا ذر،

فلمّا تأمله الناس،
قالوا: هو أبو ذر.

فقال رسول الله (صلى
الله عليه وآله): يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده ... .

وبقيت طيلة سنين أفكّر بهذا القول حتّى
نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة وهو مكان يكرهه كثيراً، فأصابه بها أجلُه، ولم
يكن معه إلاّ امرأته وغلامه، فأوصاهما أن يغسلاه، ويكفناه ثمّ يضعاه على
الطريق، فأوّل ركب يمرّ بهما يستعينان به على دفنه، ففعلا ذلك. فإذا بي في
رهط من أهل العراق، فأعلمتنا إمرأته بموته، حزنّا حزناً شديداً، ورحنا نبكي
عليه بدموع غزيرة، وقلتُ صدق حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله): لقد
سمعته يقول: «يرحم الله أبا ذر ...، ويموت وحده، ويبعث وحده، ويشهده عصابة من
المؤمنين» ثمّ واريناه الثرى في سنة 32 هـ .

فلك الله يا أبا ذر ، ما أنصفوك في
شيء.

* ومن أدعيته (صلى الله عليه وآله) التي
رويتها هذا الدعاء:

ما من عبد أصابه همٌّ،
فقال: «اللّهمّ إنّي عبدُك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك،
عدل فيّ قضاؤك، أسألكّ بكلّ اسم سميتَ به نفسك، أو ذكرته في كتابك، أو
علَّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن
ضياء صدري، وربيع قلبي، وجلاءَ حزني، وذهاب همّي» إلاّ أذهب اللهُ همّه،
وبدّله مكان حزنه فرحاً.

ولو راجعت كتب التفسير، ومعاجم القراءات
لوجدت لي قراءات أختصّ بها وحدي بلغت أربعاً وسبعين قراءة، وأخرى شاركتُ فيها
آخرين، وتجد لي آراءً في القرآن وتفسير آياته أنفرد بها، وأخرى أُشارك فيها
غيري، كما أنّ لي آراءً في الفقه، وفتاوى. وحكم وأقوال تناثرت في بطون الكتب،
ببركات البيت النبوي الذي عشتُ في كنفه، وارتويتُ من ينبوع إيمانه وعلمه
وأدبه وحكمته.

وهذه باقة من حكم وأدعية وأقوال
لي:

* ليس من الناس أحدٌ إلاّ وهو ضيفٌ على
الدنيا، ومالُه عارية: فالضيف مرتحل، والعارية مردودة.

* إنّ الرجل لا يولد عالماً، وإنّما
العلم بالتعلم.

* ما من شيء أولى بطول سجن من
لسان.

ومن دعائي: اللّهم وسع عليّ من في الدنيا
وزهدني فيها، ولا تُزوِها (تبعدها) عنّي وترغبني فيها ... .

وإنّ لي دعاء ما أكاد أدعه: اللّهمّ إنّي
أسألك إيماناً لا يبيد، ونعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع.

* إنّ في كتاب الله آيتين، ما أصاب عبدٌ
ذنباً فقرأهما ثمّ استغفر الله إلاّ غفر له:

{والذين إذا
فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب
إلاّ الله ولم يُصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون}9.

{ومن يعمل
سوءاً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر الله يجدِ الله غفوراً رحيماً}10.

*
إن عملتم في دينكم بالقياس، أحللتم
كثيراً مما حرّم الله، وحرّمتم كثيراً مما أحلّ الله.

ومن خطبة لي:

أصدق الحديث كتابُ الله، وأوثق العُرى
كلمة التقوى خير زاد، وأكرم الملل ملّة إبراهيم (عليه السلام)، وخير السنن
سنّة محمد (صلى الله عليه وآله) .. وما قلّ وكفى خيرٌ ممّا كثر وألهى، لنفسٌ
تحييها خيرٌ من إمارة لا تُحصيها. خير الغنى غنى النفس. وخير ما أُلقي في
القلب اليقين. الخمر جماع الآثام ... مَن يَغفر يُغفر له، مكتوب في ديوان
المحسنين. من عفا عُفي عنه، ... السعيد مَن وعظ بغيره ... أحسن الهدى هدى
الأنبياء، أقبحُ الضلالة الضلالةُ بعد الهدى، أشرف الموت الشهادة ...
.

* *
*

عرف الصحابة قدري، ومنزلتي عند رسول الله
(صلى الله عليه وآله)، وسبقي وفضلي في الإسلام.

فقد ارتقيت ـ يوماً ـ شجرة لأجتني من
ثمرها للصحابة وهم ينظرون إلى دقّة ساقي ويضحكون، فقال لهم رسول الله (صلى
الله عليه وآله): ما يضحككم! أو تعجبون من دقّة ساقيه; فو الذي نفسي بيده
لهما أثقلُ في الميزان يوم القيامة من أُحد.

وقد سمع عليُّ (عليه السلام) ـ يوماً ـ
ثناء جمع من الصحابة عليَّ حيث قالوا: ما رأينا رجلا أحسن خُلقاً، ولا أرفق
تعليماً، ولا أحسن مجالسة، ولا أشدّ ورعاً من ابن مسعود. فقال (عليه السلام):
«أُنشدكم الله أهو الصدق من قلوبكم؟ قالوا: نعم. قال: اللّهم اشهد أنّي أقول
مثل ما قالوا، وأفضلَ من قرأ القرآن، وأحلّ حلاله، وحرّم حرامه، فقيهٌ في
الدين، عالمٌ بالسنّة».

وها هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب،
يعين عمار بن ياسر والياً على الكوفة، ويجعلني وزيراً ومعلماً في كتاب واحد
سنة 21 هـ ، جاء فيه:

«إنّي قد بعثتُ عمار بن ياسر أميراً،
وعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله (صلى
الله عليه وآله)، من أهل بدر، فاقتدوا بهما، وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد
أثرتكم بعبد الله على نفسي».

فكنت في الكوفة معلماً
للقرآن، وفقيهاً في الدين، وأميناً على بيت مال المسلمين، حتّى آل أمر
الخلافة إلى عثمان، فبعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط والياً على الكوفة في
السنة الثانية من خلافته، وعقبة هذا من ألدّ أعداء رسول الله (صلى الله عليه
وآله)، وقد قتله عليّ بن أبي طالب بأمر رسول الله صبراً بعد أسره في معركة
بدر، وأنزل الله فيه:
{ويوم يعضُّ الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذتُ مع
الرسول سبيلا
*
يا ويلتى لم أتخذ فلاناً
خليلا
*
لقد أضلّني عن الذكر بعد إذ جاءني
وكان الشيطان للإنسان خذولا}11.

أما ابنه الوليد فقد أسلم يوم فتح مكّة،
وكان فاسقاً بنصّ القرآن: (يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ
فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)12.

جرت بيني وبين الوليد هذا مشادة وخصومة،
بعد أن استقرض مالا من بيت مال المسلمين ولم يُرجعه، فأرسل الى عثمان يخبره
بمطالبتي له بإعادة المال، وبدل أن يقف الخليفة بجانبي كتب إليّ: «إنما أنت
خازن لنا فلا تتعرّض للوليد فيما أخذه من المال». فلم يتأخّر جوابي: «كنت أظن
أني خازن لمال المسلمين، فأما إذا كنت خازناً لكم فلا حاجة لي في ذلك». ثمّ
خرجت إلى مسجد الكوفة وقلت: «يا أهل الكوفة، فقدتُ من بيت مالكم الليلة مائة
ألف لم يأتِني بها كتاب أمير المؤمنين، ولم يكتب لي بها براءة
...».

ثمّ أعلنتُ استقالتي، وقلت: «مَن غيّر
غيّر الله ما به، ومَن بدّل أسخط الله عليه، وما أرى صاحبكم إلاّ وقد غيّر
وبدّل ... إنّ أصدق القول كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد (صلى الله
عليه وآله)، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في
النار».

فلما سمع الوليد كلّ ذلك، كتب كتاباً آخر
إلى الخليفة عثمان قال فيه: إنّه يعيبك، ويطعن عليك.

فأمر عثمان الوليد بإشخاصي إليه في
المدينة، فما كان من أهل الكوفة إلاّ أن اجتمعوا بسلاحهم حولي قائلين: أقم
ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه، فقلت: إنّي لا أحبّ أن أكون أول من فتح
باب فتن لا تبقي ولا تذر. فأوصيتهم بتقوى الله، ولزوم القرآن.

ثمّ خرجتُ من الكوفة فيما راح أهلها
يودعونني بحزن وأسى قائلين: جزيت خيراً، فلقد علمت جاهلنا، وثبّت عالمنا،
وأقرأتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، فنعم أخو الإسلام أنت، ونعم الخليل ...
.

ولمّا وصلتُ مسجد رسول الله (صلى
الله عليه وآله) في المدينة إذ الخليفة يلقي كلمته، فلمّا رآني قال: ألا إنه
قد قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقيء ويسلح.

فقلت: لستُ كذلك، ولكنّي صاحب رسول الله
(صلى الله عليه وآله) يوم بدر ويوم بيعة الرضوان.

وقد أثار كلام الخليفة أمّ المؤمنين
عائشة فقالت: أي عثمان، أتقول هذا لصاحب رسول الله؟

فقال لها: أسكتي.

ثمّ أمر بإخراجي من المسجد، فضربتُ
وأُخرجت.

ومنع عطائي سنتين، وأمر بمقاطعتي، ولم
يأذن لي بمغادرة المدينة.

وتوجه عليّ (عليه السلام) نحو الخليفة
قائلا:

يا عثمان، أتفعل هذا بصاحب رسول الله
(صلى الله عليه وآله) بقول الوليد بن عُقبة؟

فقال: ما بقول الوليد فعلتُ هذا، ولكن
وجهتُ زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة، فقال له ابن مسعود: إنّ دم عثمان
حلال فردّ عليه عليّ (عليه السلام): أحلت على زبيد على غير ثقة.

ثمّ حملني علي (عليه السلام) إلى منزله،
فقام برعايتي وتعاهدني حتّى شفيتُ من آثار ضربهم لي.

ولما مرضتُ مرضي الذي متّ فيه، دخل عليّ
الخليفة عائداً، وقال لي:

ما تشتكي؟

فقلت: ذنوبي.

فقال: فما تشتهي؟

فقلت: رحمة ربي.

قال: ألا أدعو لك طبيباً؟

قلتُ: الطبيب أمرضني.

قال: آمر لك بعطائك؟

قلت: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينيه
وأنا مستغن عنه.

قال: يكون لولدك.

قلتُ: رزقهم على الله.

قال: استغفر لي يا أبا عبد
الرحمن.

قلتُ: أسأل الله أن يأخذ لي منك
بحقي.

ثمّ غادر بيتي دون أن يحصل على
رضاي.

* *
*

مات عبد الله بن مسعود عن ستين عاماً،
وصلّى عليه حبيبُه عمّار بن ياسر مع جمع من أصحابه، ودفن ليلا في البقيع سنة
32هـ .

فسلام عليك يا أبا عبد الرحمن في
الخالدين.

/ 4