آية الله السيد محمد تقي المدرسي - فی رحاب القرآن نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

فی رحاب القرآن - نسخه متنی

سید محمد تقی المدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید




آية الله السيد محمد تقي المدرسي



في رحاب القرآن





المقدمة




الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.



منذ اللحظة الأولى لولادة البشرية بخلق الله تعالى أبونا آدم عليه السلام، وإلى آخر لحظة من حياة البشرية، لم يحض الإنسان بكتاب أشرف وأفضل من القرآن الكريم، وأنه قمة الكتب التي قرأها ويقرأها الإنسان.



إنه كتاب الله، وخاتم الرسالات السماوية، وقد جعله الله تفصيلاً لكل شيء، ولم يخصصه لجماعة دون غيرها، بل جعله كتاب الجميع، ميسراً لهم ذكره.



ومن عظمة القرآن أنه لم يكن كتاب علم خاص، أو موضوع محدد، بل هو كتاب الإنسان والمجتمع والحضارة، وهو كتاب التشريع والحكم، وهو كتاب الاقتصاد والسياسة، وهو كتاب العقائد والاخلاق..وبكلمة أنه كتاب الحياة.



وأكثر من ذلك إن آياته البينات لم تحددها معاني الكلمات، ولم تؤطرها عقول العباقرة.. بل هي كالشمس تشرق كل يوم لتلبس الكون حلة جديدة من أشعتها الذهبية. فكل مرة تقرأ القرآن تلمس فيه معاني جديدة، وتكتشف آفاقاً لم تكن قد خطرت على بالك من قبل.



إنه كتاب حي لا يجرء الموت الاقتراب منه، لأنه كتاب الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.



من هنا يتأكد علينا أن نعي قيمة القرآن الكريم، ونعظم قدره في واقعنا، ونهتم به ونستفيد منه في صياغة شخصياتنا وبناء امتنا على غرار مناهجه وتوصياته.



ويجدر بنا أن لا نتوانى في هذا الطريق، لأنه يضمن لنا الحياة الطيبة في الدنيا والنجاة من النار والفوز بالجنة في الآخرة.



هذه الحقائق وغيرها فيما يتعلق بالقرآن، وجدناها في جملة أحاديث سماحة آية الله السيد محمد تقي المدرسي، والتي سجلها للبث التلفزيوني في جمهورية إيران الإسلامية. ونظراً لأهميتها، ورجاءاً في تعميم فائدتها، عمدنا إلى إعدادها في كتاب سميناه (في رحاب القرآن) راجين من الله تعالى أن يتقبله منا بقبول حسن إنه ولي التوفيق.




القسم الثقافي




مكتب آية الله السيد محمد تقي المدرسي



5/رمضان/1421هـ




القرآن في الحديث




قال رسول الله صل الله عليه وآله: فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ([1]).



قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: أفضل الذكر القرآن به تشرح الصدور، وتستنير السرائر ([2]).



قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا يعذب الله قلباً وعى القرآن ([3]).



قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: الله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم ([4]).



قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أراد علم الأولين والآخرين فليقرأ القرآن ([5]).



قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص ([6]).



قال رسول الله صلى الله عليه وآله: خياركم من تعلم القرآن وعلمه ([7]).



قال الإمام الصادق عليه السلام: ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن أو أن يكون في تعلمه ([8]).



قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: لقاح الإيمان تلاوة القرآن ([9]).



قال الإمام الحسن بن علي عليه السلام: من قرأ القرآن كانت له دعوة مجابة إما معجلة وإما مؤجلة ([10]).



قال الإمام الصادق عليه السلام: ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهال، ومصحف معلق قد وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه ([11]).



قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن أردتم عيش السعداء وموت الشهداء، والنجاة يوم الحسرة، والظل يوم الحرور، والهدى يوم الضلالة، فادرسوا القرآن، فإنه كلام الرحمان، وحرز من الشيطان ورجحان في الميزان ([12]).



قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ألا من تعلم القرآن وعلّمه وعمل بما فيه فأنا له سائق إلى الجنة، ودليل إلى الجنة ([13]).



قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما من رجل علم ولده القرآن إلا توج الله أبويه يوم القيامة بتاج الملك، وكسيا حلتين لم ير الناس مثلهما ([14]).


الفصل الأول




آفاق قرآنية



نحن والقرآن



«وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً * وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُوراً * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُـجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً »([15])



في عصر العولمة، حيث تقترب المسافات وتتهاوى الحواجز ويتحول العالم إلى قرية صغيرة ويتقدم العلم في عصر كهذا هل نحتاح -نحن- بعد الى القرآن الكريم؟ ولماذا؟ وأين موقع القرآن في هذا العصر؟ وهل إذا ما تمسكنا بكتاب الله فاتنا قطار التقدم وأصبحنا خارج دائرة الزمن؟!



إن الجواب على جميع هذه الأسئلة يعود إلى حقيقة نظرة الإنسان إلى الإنسان، لأننا إذا عرفنا حقيقة هذا المخلوق سهل علينا حل معظم المشاكل العالقة، أو على الأقل يتيسر لنا معرفة حلول الأزمات الراهنة.



فيا ترى ما هو الإنسان؟ هل هو شهوات ومخاوف وشكوك أم هو أبعد من ذلك؟ وقبل كل شيء؛ ترى من له الحق الأول في تعريف شخصية ووجود الإنسان؟



إنه الخالق دون شك؛ إذ هو الأعرف بمن وبما خلق، لا سواه. فهو -الخالق- القائل بأنه قد خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأنه قد كرّمه على سائر مخلوقاته، وعليه ينبغي أن ننظر إلى هذا المخلوق نظرة ملؤها الإحترام، لأنه صنيعة الله رب او الوجود



فالإنسان أبعد من أن يكون مجرد شهوة أو مخاوف أو شكوك، ولو كان كذلك لما ثار الثائرون، ولما سقطت عروش الطغاة.



وهذا الإنسان الذي يحاول ذوو الهيمنة والسلطان النيل من مكانته، هو الذي نفخ فيه الله من روحه وأسجد له الملائكة، فكانت تلك النفخة عبارة عن القيم التي صنعت الحضارات.



واليوم حيث تتراكم في العالم الثروات والشهوات، يحاول رجال السلطة وفي بلدان معدودة إزاحة الإنسان من طريقهم لتحقيق مصالحهم، في هذا اليوم يكون الإنسان أشد حاجة إلى القيم والروح والنفحة الإلهية.



ففي عصر العولمة والإعلام والمال والصواريخ والذرة نحن بحاجة إلى ذلك الإنسان المتوكل على الله، المعتصم بحبله. إلى الإنسان الذي يصرخ بوجه الكفر والإرهاب والإستعباد قائلاً: لا إله إلا الله.



لقد تحدى المجاهدون طغيان القوة والحقد بإيمانهم وروحهم التي أودعها الله فيهم، وتحدوهم بقرأنهم، تماماً كما تحدى الإمام الحسين عليه السلام الطغيان الأموي العتيد بالقرآن وبالرسول وبالإيمان.



وبالأمس القريب رأينا فتية لبنان المجاهدين قد طردوا عدوهم الصهيوني من أراضيهم؛ ليس بإمكاناتهم أو قوتهم أو إعلامهم قد طردوهم، وإنما بالإيمان والروح والقرآن.



كذلك الإنسان الفلسطيني حينما أعلن جهاده المشبع بروح القرآن ضد الغاصبين الصهاينة، وهو لا يملك القوة أو الدعم العالمي، تجد الصهاينة اليوم لا يسعهم مواجهته رغم ما يملكون من وسائل قمع وتنكيل، وهذا يعني أن وراء هذه المقاومة روحاً، وأن الذي يحكم هو الله هنالك الولاية لله الحق وسيخسر المبطلون أينما كانوا.



بالأمس كان الرجل يعطي المال، وهو مال المسلمين ، لهذا أو ذاك من المرتزقة والأفاكين ليبتدعوا له الأحاديث وفق رغبته وتبعاً لمصلحته، فينشرها بين المسلمين عبر المنابر لكن اليوم تغيرت الوسائل وتكاثر جمع المضلّين، فهناك الإنترنت والوسائل الخبيثة والأساليب الماكرة والمغرية؛ في هذا اليوم يحتاج الإنسان إلى القرآن الكريم وهدي النبي وأهل بيته عليهم السلام.



وإن مثل هذه الحاجة الماسة يمكن تأمينها عبر الوسائل التالية:



الاولى: بناء القواعد الفكرية للجيل الجديد في مجتمعنا المسلم على أساس القرآن، لنضمن له مستقبلاً قرآنياً طاهراً، وذلك بدءاً من نعومة أظفار هذا الجيل، عبر تحفيظ الأطفال الآيات الكريمة وشرحها لهم بالطريقة العلمية المناسبة. وهذا الأمر بحاجة إلى مؤسسات أو معاهد وروضات خاصة، أو أي شيءٍ من هذا القبيل، ليكون عقل الطفل المسلم مستأنساً بكلام الله.



الثانية: إقناع مؤسسات التربية في بلداننا على أن تجعل القرآن وعلومه محوراً لمناهجها الدراسية. وذلك لمواجهة ودحض الأفكار الجاهلية التي دسها الغربيون وأعداء الدين في العقل المسلم.



الثالثة: عودة الحوزات العلمية إلى محورية القرآن الكريم في دراساتها ومناهجها، ونبذ الإهتمام بفلسفة ارسطو وأفلاطون وابن عربي التي لا نجد لها أية علاقة بكلام خالقنا. إذ أن هذه الفلسفة وغيرها عاجزة عن منح الحياة للإنسان، على العكس من حكمة القرآن وعلمه. وعلى هذا يتأكد على رجال الحوزات العلمية أن يأخذوا فقههم وتاريخهم وحكمتهم من القرآن، لأن الله قد أكد لنا أن فيه تبيان لكل شيءٍ. ولذا فإن عليهم صرف جهودهم كلها لتوطيد العلاقة وتعميم الإستفادة من القرآن، بل يجب أن يكون هدفهم الأول في هذا المجال هو تخريج جيل مؤمن عالم بالقرآن، ثم يؤكدوا عليه بذل كل جهوده لنشر هذا العلم المقدس في صفوف المجتمع، حتى يكون الناس قرآنيين في عقائدهم وتقاليدهم وعاداتهم وأعمالهم، لئلا يكون هذا القرآن مهجوراً كما هو عليه الآن، حيث نرى الجاهلية القديمة والجاهلية الحديثة قد تظافرتا للقضاء نهائياً على ما تبقى من حس قرآني بين الناس.


القرآن كتاب الجميع




«الر كِتَابٌ اُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ»([16])



على الرغم من تطور البشرية عبر العصور على صعيد العلم والادراك والوعي وغير ذلك، إلا أن القرآن الكريم قد أنزله الله تبارك وتعالى لكل الناس وفي كل العصور. وهذه الحقيقة الساطعة تعتبر معجزة من معاجز القرآن الكبرى، حيث أن من طبيعته مخاطبة كل إنسان، مهما تفاوت مستوى استيعابه واختلف زمانه, لأن القرآن كتاب فيه ظاهر وباطن، ولباطنه بطون وكلما تضاعف علم المرء ومعرفته، كلما تعمق في القرآن أكثر.



ففي الوقت الذي يفهم الإنسان الساذج البسيط من النص القرآني شيئاً ومعنىً معيناً، نجد العالم والمثقف يفهم شيئاً مضافاً إلى ذلك وهكذا تتفاوت درجات الاستنباط حسب مستويات الناس، بل حتى لو كان الإنسان عالماً، أو كان في مستوى الإمام الرضا عليه السلام، وهو عالم آل محمد، وهو الذي علمه من علم الله سبحانه وتعالى؛ حتى لو كان كذلك، فإن الله يفتح له كل يوم باباً من علوم القرآن. وهذا المعنى قد صرح به الإمام الرضا عليه السلام نفسه في حديث شريف له.



إن القرآن الكريم الذي فيه المحكم والمتشابه ، يتحول متشابهه إلى محكم بالنسبة لمن توصل إليه، وما لم يتوصل إليه يظل متشابهاً بالنسبة له أيضاً.



ولهذا كانت قاعدة العمل بالمحكم والتسليم للمتشابه قاعدة مهمة للغاية في إطار التعامل مع القرآن، إذ أن المتتبع للآيات القرآنية كلما عمل بالمحكم وسار فيه شوطاً، كلما اُحكم له المتشابه، وتيسر له فهمه ووعيه، أي أن كتاب الله يوضح نفسه بنفسه.



ومن هذه الزاوية، كان القرآن كتاباً لكل الناس ولكل العصور والدهور، وكل فرد منهم يستفيد منه حسب مستواه وموقعه؛ تماماً كما الغيث ينزل من السماء، حيث تسيل منه الأودية بقدرها، فالوادي الواحد يستوعب بقدره هو لا بقدر الغيث، الذي يستطيع استيعاب كل الامكنة.



ولما كان القرآن الكريم كتاباً ذا مرونةٍ فائقة، فإنه قد سلب من الإنسان أعذاره الواهية التي قد يرفع عقيرته بها فيهجر القرآن بداعي عدم فهمه له مثلاً، أو إيكال ذلك للعلماء والمفسرين والمثقفين فقط.



كلاً. فالقرآن كتاب الجميع، نازل من عند خالق الجميع. ويبقى من لم يفهم هذا النص القرآني أو ذاك ملزماً بإرجاعه إلى أهل الذكر من العلماء والمختصين فهم وكلاء الله على شرح كتابه للآخرين. وهذا الأُسلوب يمثل منهجاً رائعاً قد أمر به القرآن قبل غيره، لأنه كفيل بحفظ منزلته الربانية من جهة، وكفيل أيضاً بتعميم الفائدة على الجميع من جهة أُخرى فيكون عبر ذلك كما النهر ، يغرف الناس منه حسب حاجاتهم ومقدار ما يستوعبونه، دون أن يعني أن ذلك النهر يمكن اختصاره في إنسان واحد منهم، ودون أن يعني أن هذا الإنسان غير قادر على الاستفادة من النهر شيئاً.


القرآن منهاج عمل




بمجرد أن يشتري الإنسان بضاعة معينة فإنه يطالب ويبحث عن كتابٍ يشرح له بالتفصيل الكافي كيفية الاستفادة أو تشغيل هذه البضاعة والمحافظة عليها.



أمّا الله العليم الحكيم حينما خلق الوجود والحياة فقد أرسل للناس كتاباً مباركاً، علمهم فيه كيفية التعامل مع الوجود والحياة، وشرح لهم فيه سنن الحياة وسبل السلام فيها، وقد سمّى هذا الكتاب بالقرآن.



فالقرآن هو كتاب الله المكتوب والمقروء، والخليقة كلها عبارة عن كتاب الله المخلوق والكتابان ينطبقان على بعضهما كل الإنطباق.



فمن أراد معرفة الحياة والطبيعة، يجدر به أن يقرأ القرآن ويستضيء به.



أما الذين يقرؤون القرآن وراء الأبواب المغلقة، دونما ينظرون إلى ما يحيط بهم، فإنهم عاجزون عن الاستفادة من هذا القرآن.



والذين يخوضون في الطبيعة والحياة لمعرفتها وفهمها من دون كتاب وهدىً ودليل وبصيرة قرآنية، فهم بدورهم لن يعرفوها.



إنما يعرف الحياة من يقرأها ويمارسها ويعايشها ضمن كتاب الله الذي لا يضل ولا ينسى، كتاب فيه تفصيل كل شيء بما للكلمة من معنىً.



فإذا أراد الإنسان أن يعيش في الحياة بنور، فليستنر بالقرآن، ولينظر ما هو قائل له ، فإن فيه الشرح الوافي لطبيعة الإنسان والمجتمع وتطورات الحياة، وفيه الإجابات الوافية عن نواميس الكون والهدف من خلقته، وفيه أيضاً الإجابة عن السر وراء تطورات الأمم والحضارات وعلل دمارها.. كل ذلك يجده الإنسان في القرآن، وما عليه -والحال هذه- إلا أن يطبق الآيات تطبيقاً صحيحاً على الطبيعة.



ولا يغيب عنا أن القرآن كما الشمس إن تشرق على كل يوم جديد. لذا نجد إن القرآن لم ينزل على إنسان دون غيره، أو أمة دون سواها، بل أنزله الله للبشرية كافة، وهو يجري فيمن يأتي كما جرى فيمن مضى.



فلنقرأ القرآن ولنطّبق آياته على أنفسنا وعلى الناس والحوادث والمشاكل والحالات النفسية، حتى نعرف القرآن بشكل أفضل، وحتى نعرف الحياة بصورة أدق.



وقراءة القرآن دونما تطبيق، أو ممارسة الحياة دونما قرآن، ليس إلاّ هجراً للقرآن، وليس إلا تضييعاً للحياة.



القرآن كتاب حكمة



من صفات القرآن الكريم انه كتاب حكمة، ولذلك جاءت تسميته بـ (القرآن الحكيم)، لأن فيه حكمة الحياة.



فالإنسان الذي يريد أن يضمن السعادة في الدنيا والآخرة لابد ان يتمتع بالحكمة؛ أي أن يعرف كيف يعيش ومن أين جاء وإلى أين يذهب وما هي سنن الحياة التي تعني القوانين والأنظمة التي وضعها الله تبارك وتعالى لهذه الحياة والتي من خلالها يستطيع الإنسان أن يعيش الحياة الطيبة. ولذلك فقد أوضح القرآن الحكيم سنن الحياة، وهي الحقائق الكبرى التي ليس من السهل على الإنسان أن يستوعبها، لأن عقله وفكره محدودان. ثم أن جميع الناس ليسوا على مستوى واحد من الوعي والفهم، بل هم على درجات ومستويات مختلفة لذلك فإن من العجيب أن كل الناس -على اختلاف مستوياتهم الفكرية- ينتفعون من القرآن كل حسب مستواه.



فتجد في القمة رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام يقرؤون القرآن، ويزدادون بقراءته علماً، بينما أبسط الناس أيضاً ينتفع بتلاوته القرآن بحدوده.



والسّر في تلك الشمولية، الأمثال التي يكثر ذكرها في القرآن، والتي تقوم بدور الوسيط بين الحقائق الكبرى والحقائق الجزئية، أي إنها تكون جسراً بين الإنسان وبين الحقائق ولذلك فلابد لمن يقرا القرآن ويتدبر في آياته أن يتأمل تلك الأمثال ، ثم يطبقها على الحقائق المتعلقة بها.



ولا يغيب عنا أن الامثال تقوم بدور ايضاح الحقيقة، وتقريبها للفهم، وبالتالي عدم نسيانها.



ومن خلال فهم الأمثلة القرآنية، وفهم الحقائق المتصلة بها يستطيع الإنسان ان يكون حكيماً، «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً»


القرآن سبيل الهداية




«قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهِا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» ([17])



يبدأ ابن آدم حياته عديم التجربة، ويعيش فيها ظلمات الجهل والغفلة، إذ العمر قصير وغيب الحياة أكثر من شهودها فهي مزيج معقّد قائم على أُسس لا يعرف المرء الكثير منها.



ووفقاً لذلك، أصبح ابن آدم بحاجة إلى من يهديه إلى سنن الحياة وطبيعتها وأنظمتها التي تتحكم فيه وفي الخلائق من حوله، وبحاجة أيضاً إلى من يعلمه كيفية التعامل مع النفس والمحيط والآخرين.



أن القرآن هو ذلك الهدى والمعلم والنور والبصيرة ومنهج التفكير السليم، وهو المعرفة والحقيقة. صحيح أن الناس ومن دون استثارة عقولهم، ومن دون بلورة وجدانهم ، ومن دون أدائهم ميثاقهم، وبالتالي من دون تفعيل اجهزة الرؤية والمعرفة في انفسهم، يعجزون عن الاستفادة من القرآن ولكن الصحيح أيضاً ان من دون القرآن وهداه وبصائره وعلمه وتذكرته وتزكيته، عاجزون عن الاهتداء سبيلاً.



يقول الكتاب المجيد :«قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَبِّكُمْ» أي ما يعرف ابن آدم كيفية الحياة السعيدة وكيفية العيش بسلام وأمن، لتحقيق التطلعات والطموحات.



فالبصيرة هي ما يبصر به الإنسان، وما به يعبر إلى الحقيقة.



«فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِه»ِ إن هذه البصائر ليست مفروضة عليك، وإنما هي فرصة لك فإذا اردتها استطعت الاستفادة منها، واعتمادها منهجاً لحياتك.



إذن ؛ فهي كلها فائدة للإنسان ذاته قبل غيره.



«وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهِا»إذ النتائج العكسية سوف تترتب على من اعرض عن البصر والبصيرة ثم إن الله أورسوله ليسا مسؤولين عما يختاره الإنسان لنفسه، وإنما المسؤول الأول والأخير هو الإنسان نفسه، حيث يقول تعالى:«وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بوكيل».



فهذا القرآن وهذه بصائره ومعارفه متاحة للناس في كل وقت وفي كل مكان لينتهجوا مناهجه، ويستفيدوا من رؤاه وليكشفوا بها غيب الحياة، ويصلوا إلى السعادة في دنياهم وآخرتهم وليس عليهم من وكيل فيما يختارونه.



القرآن يهدي للتي هي أقوم



« إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ اَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً »([18])



من يعش في الظلام يعجز عن أن يحلم بالنور، ومن يضطر نفسه إلى العيش في الحفر فإنه لا يفهم أي معنىً للقمم.



إن هذه الحياة التي نعيشها ليست هي الحياة الحقيقية، إذ الحياة التي أراد الله لنا أطيب بكثير وأسمى بكثير، ولكننا تعودنا على الاستمرار في هذا العذاب، واستطبنا الظلام والعيش في المآسي والآلام.



لقد بشرنا الله سبحانه وتعالى بحياة فاضلة وكريمة، حياة ملؤها الخير والمعروف والأمل والرحمة والبركة فيا ترى أين تلك الحياة، وما هي الفاصلة التي تبعدنا عنها، وكيف نقطع ونلغي هذه الفاصلة؟



قبل كل شيء لابد من معرفة أن الله تبارك اسمه قد خلق الناس ليرحمهم، وليعيشوا سعداء في الدنيا فائزين في الآخرة. وما هذا الفساد الذي نجده قد ملأ الأرض بالتأكيد ليس من الله عز وجل، إذ أن الله الخالق قد قال عن نفسه: ]وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ»كما قال أيضاً:«ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسَِ»فهذا الفساد العريض المستشري في كل بعدٍ من أبعاد حياتنا، إنما هو بسبب انحرافنا وابتعادنا عن جادة الحق وعن الصراط المستقيم الذي هو طريق الله.



وليس أمامنا -في إطار العودة الى ذلك الطريق الحق- سوى الاهتداء بهدي القرآن الكريم، الذي هو الحبل المتصل بين السماء والارض، وهو الوسيلة بين خالق السماوات والأرض رب العالمين وبين عباده المخلوقين.



إن الاصل في مشاكلنا وأزماتنا يتلخص في أمرين أساسيين: هما الانحراف الفكري، والانحراف السلوكي والقرآن الكريم إنما أنزله الخالق تعالى، ليعالج هذين الانحرافين الأخطرين.



أما الانحراف والضلالة الفكرية فيعالجه الكتاب الكريم بنوره وهداه وحكمته وضيائه، إذ هو الفرقان الذي يمكن به التمييز بين الحق والباطل.



إننا اليوم نتعرض لهجمات ثقافية شرسة متنوعة، حيث لا نكاد نتخلص من هجمة شيطانية إلاّ وتواجهنا هجمات جديدة أخرى ونحن بين هذه وتلك نتعرض للأمواج المتلاحقة من الإعلام الغربي المادي؛ الإعلام الذي يهدف قطع جذورنا وتحويلنا عبيداً لأصحاب المال والقوة الذين هيمنوا على مقدرات الأرض بالباطل.



وهذه الثقافة المادية، وهذا الإعلام المسموم الذي يأتينا كقطع الليل المظلم، يضغط على أفكارنا وثقافتنا، فلا يسمح لنا بالتفكير المستقل. ذلك لأنه يُصدّر لنا قوياً متلاحقاً مزخرفاً، مزوداً بآخر التقنيات وأحدث الخبرات الشيطانية، لغرض أداء مهمته في التأثير فينا، سالباً منا -كما هو طابعه المقيت- كل عقلانية وحقانية، باعتباره مجرد مصالح وأهواء وأفكار منمقة.



ومن خلال الرؤى القرآنية نستطيع رؤية الحياة والنظر إلى مافيها من حوادث ومتغيرات، ومن خلال فرقان ربنا نميز بين الحق والباطل، فقد نستمع الى نشرةٍ خبرية، أو نشاهد برنامجاً تليفزيونياً، أو نجلس إلى صفحة انترنيت، أو نقرأ صحيفة أو كتاباً، ولكن ما يهدينا إلى الحق من ذلك هو العقل الرشيد المؤيد بنور القرآن الكريم وبصائره وهداه وضيائه وموازينه وفرقانه، نظراً الى أن كتاب الله من شأنه أن يعطي القيم الصحيحة، والميزان الحق الذي يطرد ويزهق الباطل، فيعرفنا العدل والحق، ويكرّه لنا الظلم والباطل.



أما الانحراف السلوكي والفساد الأخلاقي، وهو الأصل الثاني الذي ترجع إليه أزماتنا الحضارية والتأريخية، فهو الآخر لابد من معالجته عبر العودة إلى ما يلقيه علينا كتاب الله تبارك وتعالى من مسؤوليات.



أقول: إن الجيل الصاعد في مجتمعنا المسلم عموماً يتعرض في الوقت الحاضر إلى ابشع المخططات الشيطانية ، ووسائل ذلك هي شبكات نشر الدعارة والمخدرات. ومع شبكات الدعارة تأتي ما تأتي من الامراض الجنسية الفتاكة، التي بدأت تنتشر انتشاراً لم نعهده من قبل، ومع شبكات الدعارة ايضاً يأتي تفكك الأُسرة ن وانتشار وتصاعد نسبة الطلاق، وهبوط معدلات الزواج، وسوء التربية وتحطيم الإنسان ككائن كريم علماً أن من يخطط لنشر الفساد في المجتمع المسلم يملك من وسائل الإغراء والخداع والمكر في حين نجد أن الإنسان المستضعف في هذا المجتمع -كأن يكون شاباً في مقتبل العمر- يفتقر إلى الثقافة الرصينة والأرضية الإيمانية الكافية فتراه يتعرض لهذه الهجمة الأخلاقية الشرسة التي تفوق حجم قدرته وتحمله وركائز تصديه ومقاومته، فينهار شيئاً فشيئاً. ولكنه لن ينتهي من هذا الانهيار المخطط له سلفاً، إلاّ ويصاب بالأمراض -كأن تكون هذه الأمراض أمراضاً جنسية- ويبتلى أيضاً بانفصام الشخصية والعجز عن بناء الأسرة السليمة، ويسلب الثقة من الجميع.



ولنا أن نتساءل عن ذنب مثل هكذا إنسان، مزقته أنياب تلكم الشبكات؛ الشبكات الشيطانية التي تملك المال والعلاقات والإمكانات المادية المتنوعة، لتسويق ما تصبو إلى نشره. فيا ترى ماذا اعددنا لمقاومة هذه الشبكات، ولتحصين جيلنا الصاعد دون السقوط في أحضان الرذيلة والانحراف؟ أوَ لسنا مسؤولين عن تحقيق ذلك لأنفسنا ولأولادنا؟



والجواب على ذلك كله ليس سوى كلمة نعم؛ لابد من العودة إلى القرآن الكريم، وأن نعيده ليكون الحاكم المطلق حتى على تفاصيل حياتنا، لأنه الأمان والسلام والمتكأ الذي ينبغي الاعتماد عليه والحبل الذي يُتمسك به. ومن يملك القرآن لن ينهار أمام الدعايات والإغراءات بكافة أنواعها إذ الحياة الطيبة الكريمة والمرفهة ليست هذه التي نعيشها مطلقاً، باعتبار أنها نتاج الفكر المنحرف والرغبة الشيطانية، في حين أن كتاب الله يأمرنا بغير ما نراه من ضياع وظلام وموت مموّه.



ثم إلى جانب القرآن هناك سفينة النجاة؛ أعني أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، الذين بهم ينطق كتاب الله ويُفسّر لأنهم -بصراحة بالغة- التجسيد العملي الأكمل للقرآن، فهم والقرآن صنوان كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إني تارك فيكم الثقلين؛ ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ([19]) فمن دون التمسك بأهل البيت عليهم السلام لا يمكن التمسك بالقرآن، ومن دون الاهتداء بهدى أهل البيت عليهم السلام لا يمكن الاهتداء بالقرآن.


القرآن كتاب إنقاذ




« وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ ءَاَْعْجَمِيٌّ وَعَرَبيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ» ([20])



يفاجأ المرء خلال حياته بمشاكل وصعوبات لم تكن في توقعاته وحساباته، وقد يصطدم ببعض الأزمات التي لا يعرف لها حلاً، فتتحداه بعضها وتقعده. هنالك يكون بمسيس الحاجة إلى بصيرة يتسلح بها لإنقاذ نفسه أو من يهمه أمرهم، ليتوصل إلى طرق الحل وسبل النجاة.



فمن أين تأتيه البصيرة المرجوّة؟



إنها تأتيه من كتاب خالقه الرؤوف الحنّان ولكن كيف؟!



إن الكثير من الناس يعرفون وجود الهدى والنور والبصائر في القرآن الحكيم، ويعرفون أن حلول مشاكلهم جميعاً بين دفتيه، ولكنهم عند المواجهة يعجزون عن استنباطها أو الاستفادة منها. فيا ترى هل ثمَّ طريق ووسيلة لحل هذه الأزمة الخطيرة؟



الجواب: إنما يكون ذلك بالمزيد من تلاوة القرآن، وربما أيضاً يتسنى بحفظ آياته حفظاً جيداً لأنك إذا حفظت آية من الكتاب، وواجهت مشكلة ما فإنها سترتسم أمامك وكأنها إضاءة وإشارة إلى الطريق الصحيح والحل الصائب. وقد وردت أحاديث كثيرة تؤكد أهمية واستحباب حفظ القرآن، منها ما روي عن علي بن الحسين عليه السلام: عليك بالقرآن، فإن الله خلق الجنة بيده لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل ملاطها المسك، وترابها الزعفران ، وحصباءها اللؤلؤ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن فمن قرأ القرآن يقال له: اقرأ وارق، ومن دخل منهم الجنة لم يكن في الجنة أعلى درجة منه، ما خلا النبيون والصديقون ([21]) حيث تتمايز الدرجات وتتفاضل المنازل، ويرى الإنسان أن بين درجة واُخرى من درجات الجنة مسيرة خمس مائة عام، او كما الفاصلة بين السماء والأرض فحينما يقرأ آية واحدة يرقأ درجة واحدة، ولك أن تتصور أن لو كنت حافظاً لكل القرآن، فكم درجة ستطويها في مسيرك إلى موقعك في الجنة الأبدية؟



بلى؛ إن قراءة القرآن المستمرة وحفظ آياته، يعتبران من أهم برامج حياة الإنسان، ولا سيما بالنسبة إلى الشبيبة والأشبال والأطفال. وإني لأوصي نفسي وكافة الآباء بالاهتمام بتحفيظ الأولاد آيات القرآن منذ سنينهم المبكرة ، وحبذا لو بدأنا معهم من عامهم الثالث، حيث يشرعون في الاستيعاب. فما أحلى وأسمى أن تمتلئ ذاكرتهم بحكمة الله وقرآنه، ليدخروها لأوقات حاجاتهم.



أما الكبار؛ فما عليهم إلاّ أن يرتلوا آيات الذكر الحكيم باستمرار؛ أي في كل وقت وسعهم ذلك، وبالأخص في أوقات الصلاة وعند الفجر، فإن قرآن الفجر كان مشهوداً.


القرآن كتاب دعوة وانطلاق




كيف استطاع القرآن الكريم ان يحرك العرب الجاهليين في بدء نزوله ويصنع منهم أمة واحدة لا تغيب عن بلادها الشمس، فكانت أمة عظيمة مقتدرة؟ ولا اتصوّر أن أمة مثيلة لأمة الاسلام قد جاءت أو ستجيء بحجمها وبحجم حضارتها.



وهل نستطيع ونحن على أعتاب القرن الواحد والعشرين -حيث مضى على نزول كتاب الله حوالي خمسة عشر قرناً من الزمن -أن نجدد التجربة ونعود إلى تلك الأمجاد؟!



قبل كل شيء؛ لابد من التأكد من أن كتاب الله كتاب دعوة وانطلاق فالقرآن من شأنه أن يخلق في الإنسان قابلية التوسّع والنمو، فقد يصبح الإنسان الواحد لدى التزامه بتعاليم السماء أمة بمفرده، وفقاً لمدى تفجّر طاقاته وإعمال قدرته على العطاء.



يصنع القرآن كل ذلك بطرقٍ شتّى منها: أنه يفتح أمام أتباعه آفاقاً فكرية وروحية لا تعد ولا تحصى ، حيث يؤكد له أنه قد خُلق ليكون جليس الرب في مقعد صدقٍ، وليكون ضيفه المكرم في جنة عرضها السموات والأرض، وأنه إنما خلق ليكون سعيداً وسيداً وملكاً في الدنيا والآخرة. ومنها؛ أنه يوضح لهم ان أجلهم في الأرض محدود، وأن الفرصة المتاحة لديهم لا تعوّض، وأنه مسؤول عن التوفيق بين وجودهم في الحياة وبين الالتزام بتعاليم السماء، ليحققوا وليثبتوا جدارتهم في أنهم المخلوقين الأرقى من بين سائر المخلوقات.



وهكذا يفجر القرآن طاقات الإنسان حتى يصنع منه سيداً وملكاً في الدنيا والآخرة، ويصنع منه داعيةً إلى تطبيق آياته، وإلى شاهدٍ على عصره، وإلى إنسان متعدد الجوانب والآفاق، مقتدراً على الفتح والفوز.



وما حقق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله التقدم والتطور بين الأمم، هو تدبرهم في الآيات القرآنية حتى تفجرت طاقاتهم.



وعلى هذا فإن القرآن كتاب عمل وفاعلية، ودعوة وانطلاق ونحن إذا عدنا للقرآن عادت إلينا امجادنا وحضارتنا ومدينتنا وتفوقنا.


القرآن أساس النهضة




«إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ اَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَاَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً»([22])



بماذا نهضت الأمة الإسلامية لدى انطلاقتها الأولى؟ وكيف انهارت عروش الطغاة أمام ذلك المد الجارف؟



لا ريب أن قيادة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله كان لها الأثر الكبير جداً في ذلك، بل حتى ان سيرته الشريفة لا يزال يتلمسها المسلمون في الوقت الراهن. فملاحم الإسلام الأولى التي حققتها القيادة النبوية، لا تزال ذات فائدة كبرى بالنسبة للنهضة الإسلامية على مرّ العصور.



ولكن أساس نهضة المسلمين -بما في ذلك قيادة الرسول وحكمته ودرايته وشجاعته- كان قائماً على حكمة القرآن الكريم. فهو الذي يهدي للتي هي أقوم؛ بمعنى أنه يفتح أمام اتباعه ومحبيه الطريق القريب والمباشر والآمن نحو ما يريدون تحقيقه من غايات.



فهذه الآية المتقدمة الذكر من سورة الإسراء نزلت بعد استعراض حالة بني إسرائيل، حيث تناوبت فيهم وعليهم حالات التقدم والتراجع والصعود والهبوط ثم قال ربنا مخاطباً إياهم ومجمل أفراد البشرية:«إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأنفُسِكُمْ»([23])، ثم بعد ذلك جاءت الآية القائلة:«إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْومَُ[..



فكيف نحسن لأنفسنا، ونعلوا وننهض بالقرآن الكريم؟



يجد المؤمن بالكتاب المجيد ان فيه خبر من كان قبله، وفيه الحكم والحكمة والقول الفصل، وفيه الحديث عن المستقبل، فيعرف أنه كتاب فتح ونهضة وانطلاق.



فمن قرأ القرآن ليعمل به ويحمل رايته، ويقتحم الصعاب ويتحدى المشاكل ويبلغ الذروة ويحقق الاهداف السامية؛ من قرأه على هذا الاساس وجد فيه بغيته وهدفه، حيث يتبين له الطريق الصحيح في وضوح مطلق، لأنه حينما يقرأه يجد في نفسه واقعين مثيرين، وهما:



الأول: أنه سيصبح مؤثراً على نفسه، ولو كان به خصاصة وحاجة فهو سيتعرف في كتاب الله على أهدافٍ أوسع بدرجات من أهداف الذات، وسيعرف أن الإيثار قطار التقدم ووسيلة النهضة الإنسانية.



الثاني: أنه سيعيش حالة الأمة الواحدة، والوحدة مع الآخرين؛ لأن الأنسان حينما يحرر نفسه من قيود زنزانتها، سينطلق في رحاب الأمة الواحدة، فتراه يتعلم في هذا الواقع الجديد الصفات المثلى كالحيوية والعطاء والإحسان والحركة الهادفة.



وإنما كان القرآن يهدي للتي هي أقوم، لأنه يبين لأتباعه السنن الإلهية، التي تحرضهم على التطلع والهدفية نحو الخير. إذ أن ما يحويه القرآن من سنن إلهية من قبيل سنة العطاء والشهادة في سبيل الله والوحدة والتعاون على البر والتقوى، وسنّة النظم والعمل الدؤوب على أُسس واضحة، وسنة الاستقامة على الطريق.. كل ذلك فيه التحريض على العودة إلى الاصول التاريخية والاجتماعية والإنسانية الصحيحة. ولهذا كانت إرادة النهضة بحاجة إلى قراءة القرآن الكريم قراءة جديدة .




القرآن سبيلنا إلى الرقي




]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ اُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرءُُوفٌ رَحِيمٌ»([24])



لقد جمعت رسالة الإسلام شتات أمة، فصنعت منها الحضارة الأقوى في العالم. فقد كان العرب قبل الإسلام يعيشون في مناطق متناثرة من أرض الجزيرة العربية وأطرافها، فحولهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في مدة قياسية جداً إلى أمة شاهدة على الناس بالقسط والعدل.



فالقرآن الكريم يفجر في الإنسان طاقاته، ويلملم شتات البشرية تحت راية واحدة، لا سيما وأنه كتاب حيٌّ ينبض بالفاعلية والروح إلى يوم القيامة.



فالله سبحانه وتعالى وعد الإنسان بالثواب وتوعّده بالعقاب؛ بمعنى أن الخالق المتعال لم يخلق الإنسان ليفنى، وأنه لم يجعل حدوده في الدنيا، إذ هذه الأخيرة ليست إلاّ وسيلة من وسائل بني البشر، ليرقوا بها إلى ما هو أعلى وأرقى.



وحينما يفتح القرآن مثل هذا الأفق الواسع أمام الإنسان، فإنه يبعث فيه الروح والعزم والإرادة، ثم إنه يدعوه إلى الجهاد، هذه الفريضة المقدسة التي لا تعني القتال فقط، بل هي تعني بذل المزيد من الجهد في كافة مناحي الحياة؛ فهي تعني الإنفاق والإحسان والعطاء والتغلب على هوى النفس ووساوس الشيطان. لغرض التحرر من الهوى الشرير وقيود الباطل.



إن المؤمنين -وعبر هذه البصيرة الإلهية- سيعلمون أن أمامهم آفاقاً واسعة وأن عليهم أن يبلغوها، ويعلمون أيضاً أن أجلهم محدود في هذه الدنيا، وبالتالي فإنهم سيضغطون على أنفسهم ما استطاعوا حتى يفجروا طاقاتهم المودعة فيهم من قبل الله فيصلوا إلى معدن الحكمة والتطور ورضا خالقهم عنهم.



إن الصفة الأساسية لاتباع القرآن تكمن في أنهم لا يسمحون لأن تكون أعمارهم ضحية أو هباءً، فتراهم لا يستسلمون للهواجس والوساوس واللهو واللعب وتفاهات الأُمور، وهم في تطلع دائم إلى الأسمى والارقى والأحسن من الوجود سواء على صعيد الدنيا أو الآخرة.



إن من الفلاسفة من دعا إلى أن يصنع الإنسان الطبيعة، ولكن كتاب الله دعا إلى أن يصوغ الإنسان نفسه صياغة جديدة،، وإلى أن يصنع الطبيعة من حوله. وبهذه الدعوة فقد سبق القرآن جميع المذاهب الفلسفية والفكرية والاجتماعية.



أما سبيل العودة إلى التاريخ التليد، فليس ثم خيار سوى العودة إلى سبب التقدم والعظمة، وهو القرآن الكريم وما يحوية من بصائر نورانية، فنتفتّح عليها ونستفيد منها ونصوغ أنفسنا كأفراد وشعوب ضمن ما رسمته لنا لكي نكون خير أُمة أُخرجت للناس، ولكي تكون شاهدين عليهم ؛ أي لنكون المقياس الذي تقاس به الأمم من حولنا كما كان الرسول شهيداً علينا وقدوة ومقياساً لنا


الفصل الثاني




حقائق قرآنية



حقيقة القرآن



«يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُم مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»([25])



كان القرآن روحاً وجسداً؛ وكان روح القرآن الهدى والنور والذكرى، وكان جسده الألفاظ والكتابات المدوّنة على أوراق المصحف أو الصوت الذي يردّده القارئ.



أما الوصول الى جسد القرآن فهو متاح للجميع، بمن فيهم من لا يؤمن بما أنزل الله بدءاً.



ولكن التوصل إلى روح القرآن وضيائه وهداه وذكراه التي أودع الرب العزيز الحكيم، و الى آفاق قول إمامنا الصادق عليه السلام: لقد تجلى الله لخلقه في كلامه، ولكنهم لا يبصرون ([26]) إذا اُريدَ ذلك، فإن المسألة تختلف تماماً، إذ لابد من سمو الروح - روح الإنسان- لكي تقرأ وتعي روح القرآن فالروح الإنسانية يلزمها التزود بالبصيرة ووسيلة الاكتشاف.



فالله تبارك اسمه يصف كتابه الكريم بأنه نور وكتاب مبين؛ والنور لا ينفع إلا من له بصر، والكتاب لا يقرأه إلا العاقل. فإذا لم تكن للإنسان عين باصرة وعقل سليم، فإنه يعجز عن درك معاني القرآن وفهم محتواه.



ثم إن القرآن حقيقته كتاب، والكتاب يعني الشيء أو الأمر الثابت، وللقرآن ثوابت واضحة ومبينة، تبين الحقائق وتكشف خطوط الحياة وأصولها العامة.



ثم يهدي به الله أي يهدي الله بالقرآن، ولكن من هو المستعد لتقبل هذه الهداية؟



إنه«مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ»أي اندفع برغبة وحماس وعلم وراء كتاب الله. فقد ترى رجلاً يهدي الناس الطريق، فإنه لا يهتدي إلا من استمع له واتبعه. أما الذي يحجم عن إطاعته، فإنه يضيع فلا يهتدي. كذلك القرآن«يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهٍُ»فبحث عن رضوانه جل جلاله، وأراد أن يرضي ربه، وأن يرضى عنه ربه.



«إِلَى سُبُلَ السَّلاَمِ»فهداية الرب الجليل تنتهي إلى الطرق الآمنة، وتحقيق الأهداف السامية في الدنيا والآخرة.



فلعل أرقى أمنيات الإنسان السوي هي العيش ضمن حياة طيبة، وأن تكون له ذرية طيبة، وعاقبة طيبة في الآخرة. وهذه الأمنيات الشريفة السامية لا يمكن تصور تحقّقها دون السير في الطرق الآمنة، التي يقول القرآن عنها بانها«سُبُلَ السَّلاَمِ»أي طرق الله غير الملتوية.



ومن اتبع وقصد رضوان الرب، ضمن السير في الطرق النزيهة ، وكان حقاً على الله أن يخرجه من الظلمات إلى النور؛ الظلمات التي قد تتجسد بالأخلاق السيئة وبالظلم والانانية والعصبية وبالجهل والفساد، والنور هو نور الرحمة والإحسان والكرم.



فهل اطمأنت نفسك إلى هذا الوعد الإلهي المثير وصدّقت بما يريد القرآن لك من سعادة في الدنيا والآخرة؟ بل هل تخيلت -ولو للحظة واحدة- وجودك في أمة نقية من الاخلاق السيئة والظلم والانانية ، ملؤها النور والرحمة والكرامة؟!



كف نفهم القرآن؟



«وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن



كُنتُم لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»([27])



ما هي الطريقة الصحيحة لتفسير القرآن؟ وكيف نهتدي إلى اللطائف القرآنية التي بينها ربنا في كتابه الكريم؟



والجواب: هو أن الالتزام بأصول التدبر كفيل بكشف حقائق القرآن، كشفاً يناسب كل متدبر. فالقرآن قد يسّر للذكر؛ بمعنى أن الله تعالى بيّنه وفصله وأحكم آياته. وتستطيع أنت كما يستطيع كل قارئ عربي أو محيط بأصول وفقه اللغة العربية أن يستوعب قدراً من القرآن.



فإذا تدبرتَ الآيات، فعليك ألاّتسترسل مع هوى نفسك، أو تحملها مالا تحتمل. ومن المحظور المؤكد أن تفسر القرآن برأيك الغريب عن الكتاب. فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله إنه قال: ومن فسّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب ([28])



فلا تحمل القرآن أفكارك المسبقة، وعليك بالتجرد كلياً، إذ مائدة القرآن لا يأتيها إلاّ الطاهر النظيف من الأدران الفكرية، والمتجرد عن الثقافات الدخيلة والغريبة هذا اولاً.



والأمر الثاني: إذا صادفك الغموض فلم يتضح لك نص قرآني ما، فاعلم أن التأنّي والعودة إلى أهل الذكر؛ اولئك الذين استوعبوا القرآن وتذكروا به واستفادوا من آياته ، وهم الذين اختصهم الله بقوله العزيز:«فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَال فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاَبْصَارُ»([29]) وهم محمد وأهل بيته المعصومين عليهم الصلاة والسلام، ومن يسير على نهجهم القويم ويستوعب القرآن ولم يكن من أهل الهوى أو تلهيه التجارة ويشغله البيع عن ذكر الله وعن معرفته ومعرفة أحكامه؛ إنهم هم الذين يدعونا القرآن الكريم نفسه إليهم بقوله:«وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُم لاَ تَعْلَمُونََ»أي إذا افتقرتم إلى العلم ولم تكونوا ممن يقتحم غمار المجهول بعقله، فحاولوا التوصل إلى القرآن بأهل القرآن، الذين يملكون البصائر والأفكار الصحيحة المبيّنين للناس ثقافة الرسالة والحلال والحرام.



إذن؛ لا يمكن بحال من الأحوال الاستغناء عن المبيّن لكتاب الله، وهو النبي ثم أهل بيته الطيبين الطاهرين، تبعاً لما اختصهم الله به من العلم والحكمة، وأنزل فيهم ثناءه المجيد كما أنزل في معانديهم تنديده واستنكاره، حيث قال جل اسمه:«أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الاَخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَيَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ اُولُواْ الاَلْبَابِ»([30]).



أفلا يتدبرون القرآن؟



«أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ[([31])



لقد خلق الله نوراً، ثم قسمه إلى قسمين؛ فأودع القسم الأول في الإنسان وسمّاه العقل، ثم خلق بالقسم الثاني كتاباً وسمّاه القرآن المجيد.



فالقرآن هو ذلك العقل الذي فصل تفصيلاً من لدن حكيم خبير، وهو الكتاب الذي يسره الله وبرمجه بلغة الإنسان، وأنزله من العليين لكي يفهمه مخلوقه المكرّم، حتى كان التطابق بين العقل والقرآن تطابقاً من شانه إيصال الإنسان إلى الحقيقة.



إذن؛ فالقرآن هو العقل الظاهر، والعقل هو القرآن الباطن.



من هنا؛ فإن العقل كلما استضاء بالقرآن كلما أفصح عن نفسه، وكلما تدبر القارئ في آيات الله كلما أعطى الفرصة لعقله بالظهور. فلا يفهم القرآن دون العقل، ولا يمكن للعقل أن يتبلور دون القرآن.



إن الجسر الرابط بين العقل والقرآن، هو عملية التدبر والتفكّر والتأمّل.



وعلى هذا؛ لا ينبغي لقارئ كتاب الله أن يمرّ عليه مروراً مجرداً، أو يكون همّه الوصول إلى آخر السورة، أو يكون هدفه من القراءة لقلقة اللسان بالحروف والكلمات والمظاهر، بل يجدر به التعمق والوصول إلى ذلك الجوهر المقدّس والنور الوضّاء الذي أودعه الله في كلماته. ولا ينسى القارئ للقرآن أن يضع نصب عينيه الحديث الشريف المروي عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث قال: لقد تجلى الله لخلقه في كلامه، ولكنهم لا يبصرون ([32]) ليكون له بمثابة المثير والمحرض نحو التدبر في القرآن.



أما إذا أردنا التعرف إلى الأسباب التي تدفع إلى عدم التدبّر والتأمل في آيات الله، فعلينا أن نقول: إن الشيطان الرجيم يبذل كل جهوده اللعينة، لكي يفكر المرء في كل شيء لدى قراءة القرآن، إلاّ فيما يحتويه القرآن نفسه!! فهو كما يوسوس في القلب حين الصلاة والصيام وسائر العبادات، كذلك يضاعف نشاطه أثناء قراءة كتاب الله. ولهذا فقد أمرنا الله سبحانه بالتعوذ من الشيطان عند كل مرة نقرأ فيها الكتاب الكريم.



وثاني الأسباب: هو الاقفال القلبية المتصوّرة بصور الأفكار المسبقة التي يحملها الإنسان فهي أقفال وحجب تحول دون أن يستقبل القارئ الرؤى القرآنية والبصائر الربانية بذهنية متفتحة ناضجة.


/ 4