<a name=aaa1> </a>المقدمـة - مبادئ الحکمة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

مبادئ الحکمة - نسخه متنی

سید محمد تقی المدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید






المقدمـة


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الميامين.


قبل عقد من الزمان، اتيحت لي فرصة الحديث عن بعض مبادئ الحكمة والعرفان، وبعد عام من ذلك التاريخ خرج الى الاسواق كتاب باسم "العرفان الاسلامي" واستقبل في كثير من الاوساط استقبالاً حسناً، وترجم الى اللغة الفارسية واستقبلت ترجمته ايضاً استقبالاً مناسباً، واعيدت طباعتها عدة مرات. وكان الكتاب عبارة عن تحرير قسم من تلك الأشرطة بعد توثيقها.. وبقي القسم الآخر منها معطلة، الى أن وفق اخوتنا في المكتب وبالذات القسم الثقافي منه والاستاذ الحاج طالب خان حفظه الله بالخصوص للعمل على تحرير الأشرطة من جديد.


وبالرغم من أن القسم الاول من الموضوعات متشابهة مع موضوعات كتاب العرفان، إلا أن القارئ العزيز سوف يكتشف إنشاء الله؛ أن النسق العام للكتاب الجديد كان يستدعي اعادة تحرير تلك الموضوعات، بالاضافة الى الموضوعات الجديدة.


بلى؛ الحديث عن مبادئ الحكمة حديث شيق، والكثير من الناس يودون أن يطّلعوا على موجز لتلك المبادئ، وإذا اراد أحدهم التوسع فبإمكانه مراجعة الدراسات المطوّلة.


واختصار الحديث عن مبادئ الحكمة ذات صعوبة نسبية ولكن الله سبحانه وفقنا الى ذلك بفضله وببركة أحاديث أهل البيت عليهم السلام.


وفي الختام أهدي ثواب هذه الدفاتر التي شرحت فيها مبادئ الحكمة على اساس نصوص الوحي مقارنة بتصورات الفلسفة، أهدي ثوابها الى روح استاذي ووالدي سماحة آيـة الله السيد محمد كاظـم المدرسـي وذلك بمناسبة مرور السنة الرابعة على وفاته. وذلك لأنـه (قدس سره) كان له الفضل الكبير عليّ بعد الله سبحانه، حيث كنت منذ نعومة أظفاري تلميذاً صغيراً عنده وهو يلقي على طلبة أهل العلم في مدينة كربلاء المقدسـة دروس المعارف الاسلامية التي تلقاها -بدوره- في مدرسة استاذه آية الله العظمى الشيخ ميرزا مهدي الاصفهاني في مدينة مشهد المشرفة.


ونسأل الله العلي القدير أن ينفع بهذا الكتاب المؤمنين. وأن يجعله ذخراً لي ولهم ليوم لاينفع مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم..


محمد تقي المدرسي


طهران 24/ ذي القعدة الحرام / 1418هـ

الباب الأول نظـرة تـاريخيـة


تمهيـد


من الحري بنا ان نعرف، ان الحكمة تختلط فيها الموضوعات المتباعدة بصورة قد يبدو فيها الحديث مشتتا، لا يدور حول محور واحد. فالبحث يتنقل من مجال الفلسفة الى مجال السلوك والاخلاق، ومنه الى المجتمع، ومن المجتمع الى السياسة. كل هذه البحوث قد تكون محوراً لموضوع الحكمة، او ما يسمى بالفلسفة.


فربما يتحدث المرء حال تناوله مباحث الحكمة عن القلب وما يدور في اعماقه من خلجات وهواجس، وما تعتريه من شهوات وتطلّعات، وما يعيش في غماره من أفكار وإرادة. وفي نفس الوقت قد يكون حديث الباحث عن الارض والجبال والصحاري، بل وحتى عن الكواكب المتناثرة في الفضاء، وربما عن ابعد مجرة في هذا الفضاء اللامتناهـي. وقد يكون الحديث عن الانفجارات الهائلة الحادثـة في أعمق زوايا الفضـاء، وفي الوقت ذاته عن شعلة الحب الابديـة التي تسكن قلبك.


ولعلك تتساءل: ماهي العلاقة بين تلك الانفجارات الكونية الهائلة وبين القلب؛ هذه المضخة الصغيرة التي نرمز بها الى العواطف والاحاسيس البشرية ؟ فأين القلب واين الكون ؟ اين الفؤاد واين الفضاء ؟!


واقول : بلى ؛ إن هناك علاقة راسخة، والعلاقة تكمن في ان من يهيمن على تلك المجرات الهائلة هو ذاته المهيمن على قلبك، وقلب المؤمن تهيمن عليه قدرة إلهية ؛ وتلك المجرات تهيمن عليها قدرة إلهية. والشعلة الابدية التي تسكن قلبك، هي شعلة الحب التي تربط بين قلبك الصغير وبين ربك الكبير، وبالتالي بين قلبــك هنا وبين تلك المجــرات، في كل آفاق السماء. فالاله المهيمن واحد، ونحن نعيش في ظل الحكمة، في مهرجان الوحدة ؛ بل في مهرجان الأحدية.


الحكمة ؛ محور المعارف :


إذن ؛ فالحكمة والفلسفة، وان شئت فقل العرفان، تجمع بين شتات معلوماتك بخيط واحد، وهذا الخيط هو الحديث عن المبُدئ والمعيد، الخالق المبدع الذي نرجع ونؤوب إليه، إلهنا الذي نحبه ونكدح اليه ونخشاه ونرغب في ثوابه. انه حديث عن اشياء عديدة، ولكن ليس بصورة فوضوية، انما هو حديث عن هذه الاشياء ضمن إطار الاحدية الالهية، وحول محور معرفة الله سبحانه وتعالى.


وقد يزعم البعض ان الحديث عن الحكمة سيغور في اعماق الفلسفة والعلم، وفي اعماق الالغاز والاسرار التي هي فوق مستوى العقل البشري.


اقول بلا، ولكن ليست هذه الاسرار ألغازا أمام الانسان الذي يفتح قلبه، وأمام من يعيش لحظات المعرفة والاشراق والتجلي. نعم الذي يعيش بقلب مغلق؛ يعيش في إطار اهوائه ؛ يعيش ضمن زنزانة نفسه. هذا الذي يعيش في مثل هذه الاقبية سوف يصبح النور لعينيه لغزاً محيّراً ؛ اما المؤمن فهو ينظر بنور الله، وإن قلبه يتحوّل الى مهبط لحكمة الله، وسيكون فؤاده موضعاً يتجلى فيه الرب سبحانه وتعالى. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا رأيتم المؤمن صموتا فادنوا منه فإنه يُلقي الحكمة.([1])


ان الحديث هنا ليس حديث المستويات العلمية، فقد يكون اكبر العلماء طفلا صغيرا في مجال الحكمة الالهية والعرفان، لانه لا يعيش الاّ بقلب مغلق، يجهل طبيعة ذاته، ولايعرف خالقه ولا الى اين يسير. وقد يكون راعي الابقار والاغنام السارح معها على سفوح الجبال عملاقا عظيما في اسرار الحكمة، لانه ينظر بنور الله. فالعلم ليس مجرد اكداس من المعلومات، بل هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء.


الحكمة ؛ كتاب مفتوح :


ان موضوع الحكمة الالهية الذي سنتناوله ليس موضوع اسرار جامدة، بالرغم من انه حديث عظيم ويتناول موضوعاً دقيقاً، الا أن هذا الحديث سيكون موضوعاً رائعاً وممتعاً بالنسبة الى القلوب المؤمنة المفعمة بالنور الالهي.


ونتساءل : ماهو واجب القراء تجاه مثل هذه البحوث ؟


وقبل الإجابة عن السؤال ؛ لابد من التأكيد على انه من الضياع ان يعيش الانسان سبعين عاماً مثلاً، وهو بعيد وغافل عن المعرفة ؛ بعيد عن اقرب الاشياء اليه ؛ بعيد عمن هو اقرب اليه من حبل الوريـد، وذلك لمجرد انه لم يرغب في ان يجهد نفسه او يُعمل فكره. واذا كان من المنتظر ان يقف المرء عند هذا الحد، فيا ترى ما هي العلة وراء ان يدعى بالكائن العاقل ؟ ولماذا وفّر الله للانسان مصادر العلم ووسائل المعرفة ؟ هل زوده الله بها ليحملها معه الى القبر ؟


إن أمقت شيء عند الله سبحانه وتعالى ان يدور هذا الكائن المكرّم في حلقة مفرغة، وان يقف في نهاية المطاف عند النقطة التي بدأ منها. البعض من الناس لا يتوقع من المفكر والكاتب والخطيب إلا ان يحدثهم عمّا حدثهم به من قبل، انهم لايريدون إلا العيش في ظل القصص والمعلومات التي ادلى بها لهم من قبل. اما اذا حاول المتحدث اوالكاتب اختراق آفاق جديدة، استرهبوه واسترهبوا آفاقه، بل ولعلهم ينكصون على اعقابهم مفتشين عن مجالات اسهل. والسهولة ليست من الشجاعة والبطولة في شيء، اذ يتعين على الانسان ان يسعى ابدا الى فتح ميادين جديـدة، وغير ذلك فأن من تساوى يوماه فهو مغبون، وهل رأيت شجاعـاً خاسـراً ؟ انما الشجاعة قرين الفوز وقرين الربح، ولقد قيل قديما : فاز باللذات من كان جسورا، واية لذة احلى وامتع من لذة المعرفة.


قيدوا العلم بالكتابة :


وفي اطار هذا الحديث ؛ يمكن القول ان ثَمّ اصولا وواجبات ينبغـي على طالب المعرفة من اخذها بعين الاعتبار لتحصل له الفائدة على وجهها الاسنى والافضل.


فبعد سعيه باتجاه اقتحامه افق المعرفة هناك اصل تدوين ماتقع عليه يده من تفاصيل معرفية، لعله يفيد منها غداً خلال مسيرته وكدحه، وعسى ان تكون ورقة العلم الواحدة التي يخلّفها المرء بعد حياته حجاباً منيعاً بينه وبين نار جهنم في الاخرة.


ولايقل الواحد منا ان مجال عمله يختلف او يتعارض مع تحصيل العلم و الاهتمام بالمعرفة. فالعلم ليس حكرا على احد، فهو ليس عنصرياً او طبقياً، ولقد قال نبي الاسلام الاعظم صلى الله عليه وآله :" طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ".([2])


وهناك اصل اخر يتمثل في متابعة البحث والتطلع نحو العثور على اجوبة شاملة وشافية لكل سؤال يستوقف الذهن. وقد تكون هذه الاجابة في قراءة كتاب آخر، او حضور درس، او محاورة استاذ عالم. « فَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُم لاَ تَعْلَمُونَ » ( النحل/43)

النقـد :


ثم يأتي دور عملية النقد لما يتلى عليك كدارس، لا سيما في مجال العرفان الاسلامي الذي يتحتم ان تقوم فيه بدور الفاعل دون الاكتفاء بدور المنفعل والمتلقي. فمن المفترض في خائض هذا المجال ان يستمع ليختار « الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ » (الزمر/18) ، « وَتَعِيَهَآ اُذُنٌ وَاعِيَةٌ » (الحاقة/12)


فالاختيار امر واجب هنا، وان تكون المجادلة بالتي هي احسن دون الوصول الى حد المراء، وإذا ما توضحت الحقيقة فلا بد من قبولها والاستسلام لها دون خجل او تعنت وغرور.


اما اللازم الآخر والاخير فهو التفاعل مع موضوع هذا البحث، ويكفي ان نعرف ان العرفان الاسلامي والحكمة الالهية قد تكون وبالا علينا، لأنها تحملنا مسؤولية عظمى لاترغب اهواؤنا وشياطيننا ان نحتملها. والحديث الشريف يقول: " إن امرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرّب او نبي مرسل او عبد مؤمن امتحن الله قلبه للايمان ".([3])، فنحن لسنا برسل ولا ملائكة، ولكن لنكن مؤمنين ممتحنين، امتحن الله قلوبنا للايمان، ولم لا ؟ لم لا نطمح ان نكون مؤمنين ممتحنين حتى نحتمل أمر الائمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام ؟


وفي خاتمة التمهيد هذا، ننتقل الى السؤال الآخر : ماهي طبيعة البحوث التي سنتناولها ؟ وحول ماذا تدور فصولها ؟


سيحوي الكتاب فصولا عديدة ؛ الاول منها سيتناول موضوع الفروق الاساسية بين الفلسفة والدين، وسنتحدث في هذا المجال عن تأريخ الفلسفة وعن الخطوط العريضة للفلسفة، كما سنتحدث عن الخطوط العريضة للحكمة الالهية. ثم نتناول بعد ذاك ابعاد هذه الحكمة وهذا قد يحويه الفصل الثاني ؛ وبالذات خلال الحديث عن المعرفة والعقل والتوحيد وابعاده. ثم ننتقل في الفصول الاخرى الى بحث الجوانب السلبية في الفلسفة، والمعطيات الايجابية للحكمة الالهية.


ومن خلال ذلك كله سيتبين لنا ان القرآن الكريم، والسنة الشريفة، والادعية المأثورة، تتحدث عن أعمق وأعقد المسائل، و عن سر الاسرار ولُغَز الالغاز وغيب الغيوب.. تتحدث عنها وتتناولها بلغة سهلة ميسورة وجدانية تمكّن الانسان الفطن من الانتفاع بها.


ان تلاوة كل آية من آيات الذكر الحكيم، وقراءة كل رواية ودعاء جاء على لسان الرسول العظيم واهل بيت الوحي عليهم السلام تحدو بنا الى تلاوة وقـراءة المزيد منها. فنحن وللاسف الشديد بعيدون عن هذه الروافد العلمية الغنية رغم قربها منـا؛ بعيدون عن الاستفادة منهـا، لاننا لا نعرف معنى القرآن الذي نتلوه أو معنى الدعاء الذي نقرأه او معنى الرواية التـي نسمعها. اما إذا عرفنا ودرسنا هذا العرفـان الاسلامي، فسوف تتحول آيات القـرآن الى معراج، وفقرات الأدعيــة الـى مدرسة، واحاديث الرسول الكريم واهل بيته عليهم السلام الى جامعة روحية - علمية بالنسبة الى كل واحد منا - تزيده ايمانا وتربية وعلما وخلقا حسناً.


الفصل الأول : الحكمـة لمـاذا ؟


من حق المرء أن يتساءل عن السر وراء ضرورة الاجتهاد في دراسة العرفان الاسلامي.. ويفرض هذا التساؤل نفسه علينا قبل الخوض في غمار بحث "العرفان الاسلامي"؛ المتعدد الاطراف الواسع الشواطئ. وفي الاجابة نقول:


ان الانسان المسلم كثيرا ما يكون عرضة للأمواج الفكرية غير النزيهة التي تعمل من أجل سلب الهوية الدينية من شخصية الفرد المؤمن، ومالم يحصّن الانسان المؤمن نفسه وسلوكه ضد الجوانب الشيطانية الخاطئة لهذه الامواج الفكرية الزاحفة، فان ذلك يؤدي الى اصابته في ثقافته ومعتقداته الدينية إصابات بالغة الخطورة.


ان الناس يولدون على الفطرة ولكن البعض ينحرف عن الجادة المستقيمة، ولا يكون ذلك بفعل الوراثة او التربية دائما، بل ثَمّ سبب آخر لا يقل عن سابقيه تأثيراً على سلوكه وثقافته وآدابه ذلك السبب هو ما يدعوه بعض الفلاسفة بـ" أصنام السوق " اي ما يتــوارد عليه من افكار بسبب تعرضه للموجات الثقافية الغريبة على


طبيعته وتكوينه.


فالمسلمون الذين انجرف بعضهم نحو الفلسفة الغربية او الشرقية لم ينحرفوا بداعي التربية السيئة، او بسبب انعدام الاهتمام العائلي بهم.. فالآباء في مجتمعاتنا المسلمة غالبا ما يكونون ذوي عاطفة خاصة تجاه أبنائهم تجعلهم يقومون بواجب التوجيه والتربية، الا ان الاجيال الجديدة انفتحت بلا حدود وبلا بصيرة عاصمة أمام التيارات الفكرية الزاحفة فأضحت في مهب الرياح العاتية السامّة التي تنفثها الثقافة الغربية او الشرقية اللادينية، مما أثرت عليها وأدت بها في نهاية المطاف الى الفسق والانحراف، والى الالحاد والكفر أحياناً.


ان الطفل ينمو في بلاده المسلمة مؤمنا، وحينما ينخرط في سلك المدارس الحديثة فإن اول ما يعتريه هو الشك بما حمله من ايمان بريء معه الى المدرسة، لان المناهج الدراسية المستوردة لا تهدف الا الى مسخ هوية ابنائنا المؤمنين.. ثم سرعان ما يتحول هذا الشك مع التدرج التعليمي الى طرح الشبهات والمغالطات ومن ثم ينتهي الامر الى الفسق والانحراف.. وقد يكون مصير الشاب السقوط في هاوية الكفر والالحاد.


ونحن بدورنا قد نتعرض لهذه الموجات. فاليوم قد تحوطنا ثقافة اسلامية ولكن هل نستطيع ضمان استمرار هذه الاحاطة الثقافية؟ إن من المحتمل ان تتغير الظروف، وان تنعدم من حولنا مصادر الثقافة الدينية التي نستلهم منها ؛ وأن نعيش مستقبلاً ظروفا فكرية معاكسة، وذلك بالاقامة في بلاد غريبة عنا وعن افكارنا وآدابنا واخلاقنا، وهناك تتصاعد نسبة انسياقنا باتجاه الفساد والثقافة الملحدة ؛ إذا كنا منزوعي السلاح، واذ ذاك كيف سندافع عن انفسنا ؟


البعض يقول أنا مؤمن وسوف أموت مؤمناً، ولكننا نتساءل - بتفاؤل - عن الضمانة في ذلك ؟ وهل يضمن الداخل في مستعمرة المجذومين ان يخرج بنفسه سليما معافى مالم يكن قد حصن بدنه بالمضادات الحيوية اللازمة؟! كذلك الامر تماماً بالنسبة للروح والقلب وغذائهما من الفكر والثقافة والمعرفة.


هذا كله بغض النظر عن ان ما يدعى بمصادر الثقافة الاسلامية لم تعد اليوم مصادر ثقافية دينية خالصة تماماً. فهناك الكثير من الكتب والبحوث التي دوّنها كتاب مسلمون الا انك لا تستطيع أن تضمن بشكل مطلق سلامة كل الافكار الواردة فيها، فهناك أحياناً كثيرة خلط بيـن الافكار الصحيحة والثقافات الدخيلة أو الآراء الشخصية، وللتمييز بين كل ذلك لابـد للمؤمن أن يمتلك المقياس الذي يعينه على تحديد الخطأ عن الصواب، ويقيه عن السقوط في المزالق الفكرية والانحرافات المعرفية.


وبامتلاك ذلك المقياس فإن بإمكان الفرد المسلم ان يخوض ما شاء له ان يخوض في المعارف الاسلامية وغير الاسلامية، مادام يتمتع بما يعصمه عن الانحراف والتيه. إذ الأمر ليس مرهوناً بمسألة فقهية فرعية مثلاً، حيث قد يخطأ الواحد منا في واجب من واجبات صلاته وبامكانه ان يعالجه بقضاء او احتياط، او يخل بواجب الصوم فيقدم الكفارة - مثلاً -. انما الأمر يتعلق بالايمان بمصدر الوجود وخالقه وقد حذَّر الله في مناسبات لا تحصى عن الشرك ووصفه بأنه ظلم عظيم، وان الذنوب جميعاً قابلة للغفران سوى الشرك والكفر به، وان تفاصيل العقاب عليه لا قدرة للمخلوق الضعيف على تحملها ؛ بل ولا تصورها.


ومن هذا المنطلق بالذات ؛ نؤكــد بأن الاخوة المؤمنين مدعوون بشكل مؤكد


الى متابعة بحث العرفان الاسلامي الذي يمثل بطبيعة الحال مفتاحاً جديراً لبحوث اعمق واشمل واكمل.


والضرورة الكامنة وراء هذه المتابعة هي ان الافكار الانتقائية والالتقاطية التي كانت منتشرة في زمن أئمة اهل البيت عليهم السلام وتستفحل في يومنا هذا، لابد لنا من مواجهتها والوقوف موقف المتمكن منها ومن دحضها بألمع الحجج وأقوى الادلة.


ولطالما كان الائمة عليهم السلام يُسألون عن الافكار الإلحادية التي كانت منتشرة على عهدهم، فكانوا عليهم السلام يؤكدون على ضرورة امتلاك المقياس السليم في مواجهة تلك الافكار. والمقياس هو معرفة أين هي معاقل العلم، وأبواب الرحمة، وضياء الامر. يقول الامام جعفر الصادق عليه السلام: "إن رسول الله صلى الله عليه وآله أنال في الناس وأنال وأنال، وإنا أهل البيت معاقل العلم وأبواب الحكم وضياء الامر". ([4])


فالرسول صلى الله عليه وآله والائمة من أهل بيته عليهم السلام هم معاقل العلم وأبواب الحكم وضياء الامر، وبالتالي هم المقياس السليم الذي على المؤمن الرجوع اليه. فالانسان المؤمن عليه ان يتمتع ويتزود أولا بالمقاييس السليمة المستنبطة من الحجة الالهية، ثم لا ضير عليه ان ينفتح على الثقافات الاخرى لدراستها والرد على الفاسد والملحد منها. ومن دون التزود والتسلح بالمقاييس المشار اليها لايجوز له الانفتاح على الثقافات الاخرى، إذ سيكون واقعه مدعاة لمزيد من الشك والضياع والانحراف.


معرفة الله اشرف العلوم :


والسبب الآخر الذي يدعو الانسان المسلم الى دراسة العرفان، ينشأ من ان اشرف العلوم هو علم معرفة الله سبحانه وتعالى ؛ لان الله عز وجل هو مصدر الوجود ومنشأ الخير، وهو الذي خلق كل شيء وقدّره تقديرا، وهو المبدئ المعيد، والخالق الرازق، له الاسماء الحسنى في عالم التكوين وفي عالم التشريع والثقافة وعلوم الفكر.. فان الله سبحانه وتعالى هو المحور، والايمان به يأتي قبل كل ايمان.


يقول الامام امير المؤمنين علي عليه السلام في اول خطبة وضعت في كتاب نهج البلاغة :


" الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ولايحصي نعمه العادّون ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بُعد الهمم ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود ولا وقت معدود ولا أجل ممدود، فطر الخلائق بقدرته ونشر الرياح برحمته ووتّد بالصخور ميدان أرضه " ثم يقول عليه السلام : " اول الدين معرفته ".


فعلم الدين يبدأ من حيث الايمان بالله سبحانه وتعالى ؛ فهو مصدر هذا الوجود، وأول الدين هو معرفة مصدر هذا الوجود، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الاخلاص له، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه. و" اول عبادة الله معرفته " كما يؤكد سيد المتقين علي بن ابي طالب عليه السلام ذلك.([5])


فقد يعبد المخلوق خالقه بفريضة الصلاة والصيام والزكاة، وقد يعبده بالجهاد والقتل في سبيله، ولكن تبقى معرفة الله اعظم من كل انواع التعبد، فعبر معرفة الله تتم الفرائض، وعبرها ايضا يقبل ما دونها. فمن صلى ولا يعرف لمن صلى، او صام ولم يعرف لمن صام، ومن جاهد وقُتل ولم يعرف في سبيل من جاهد وقُتل.. ستذهب اعماله سدى وحسرة، وقد يخسر الدنيا والآخرة، حيث سيضل سعيه ويقعد مذموماً مدحوراً.


اذن ؛ " أول عبادة الله معرفته، واصل معرفته توحيده، ونظام توحيده نفي الصفات عنه ؛ جلَّ ان تحلّه الصفات لشهادة العقول، ان كل من حلّته الصفات مصنوع، وشهادة العقول انه جلَّ جلاله صانع ليس بمصنوع..." إلى آخر الخطبة الايمانية التي رويت عن الامام علي عليه السلام.([6])


ولكي نهيء نقطة البدء في هذا البحث المديد، فانه من الجدير بنا ان نلتمس ذلك في احاديث الرسول وروايات اهل بيته عليهم السلام التي من طبيعتها ان تهب لنا الامل والرجاء في رحمة الله سبحانه وتعالى. فهي التي تفتح لنا آفاقا من العلم الاسلامي المتجسد بالعرفان والحكمة ؛ ولا شك ان اهل البيت هم اول وخير من عرف الله عزّ وجلّ حق معرفته، ولذلك اجتباهم ربهم.


الجنة ثمن التوحيد:


يقول رسول الله صلى الله عليه وآله : "والذي بعثني بالحق بشيرا ؛ لايعذب الله بالنار موحِّدا ابداً، وان اهل التوحيد ليشفعون فيشفَّعون". ثم قال صلى الله عليه وآله: "إنه اذا كان يوم القيامة أمر الله تبارك وتعالى بقوم ساءت أعمالهم في دار الدنيا الى النار فيقولون : يا ربنا كيف تدخلنا النار وقد كنا نوحدك في دار الدنيا ؟ وكيف تحرق ألسنتنا وقد نطقت بتوحيدك في دار الدنيا ؟ وكيف تحرق قلوبنا وقد عقدت على ان لا إله الا انت ؟ ام كيف تحرق وجوهنا وقد عفرناها لك في التراب ؟ ام كيف تحرق ايدينا وقد رفعناها بالدعاء اليك ؟ فيقول الله جل جلاله : عبادي ساءت اعمالكم في دار الدنيا فجزاؤكم نار جهنم. فيقولون : يا ربنا عفوك اعظم ام خطيئتنا ؟ فيقول تبارك وتعالى : بل عفوي. فيقولون : رحمتك اوسع ام ذنوبنـا ؟ فيقول عز وجل : بل رحمتي، فيقولون : إقرارنا بتوحيدك اعظم ام ذنوبنـا ؟ فيقول تعالى : بل إقراركم بتوحيدي اعظم. فيقولون : يا ربنا فليسعنا عفوك ورحمتك التي وسعت كل شيء. فيقول الله جل جلاله : ملائكتي، وعزتي وجلالي ماخلقت خلقا احب اليَّ من المقرين بتوحيدي، وان لا إله غيري، وحق عليَّ ان لا أُصلِي اهل توحيدي [أي : لأحرفهم بالنار] ادخلوا عبادي الجنة".([7])


وقد جاء في مأثور الدعاء :" من اكثر طرق الباب اوشك ان يسمع الجواب ". والمرء اذا نادى الله بغير انكسار فليستغث مرة اخرى، فلعل بينه وبين الله الف حجاب، وكلما قال الداعي : يا ألله، كلما خرق حجاباً من هذه الحجب حتى يصل الى مصدر النور، فيجيبه الله سبحانه وهو اللطيف بعباده : لبيك وسعديك، عبدي ادعني اجبك. ولعل الدعاء الاهم الذي ينبغي ان ندعو به هو : ان يقينا الله نار جهنم، « رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلْظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ » (آل عمران/191-192)


فالبعض في هذه الدنيا يطمح لان يكون الاول في كل مضمار من مضامير الحيـاة، والبعض الآخر يكتفي بالفتات من كل شيء. البعض يدعو الله لان يمنحه امرا بسيطا لا يتناسب حتى واحتياجاته الدنيوية، اما البعض الآخر فلا يكتفي بالطلب الى الله سبحانه وتعالى ان يقيه عذاب نار جهنم فحسب، بل يتطلع ويسمو الى الدرجة الاعلى ليتمنى على الله - وهو القريب المجيب - أن يقيه الخـزي في يوم القيامة، بنفس الدرجة التي يطلب فيها ان يرزقه الرضوان الالهي الذي قال القرآن الكريم عنه انه اكبر من الجنة ذاتها، و انه هو الفوز العظيم. « وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » (التوبة/72).


ان ذلك كله منوط بمستوى معرفة العبد بربه بعد معرفته بنفسه كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله : " من عرف نفسه فقد عرف ربه ".([8]) وهذه المعرفة هي المقياس الأوفى المحدد لشخصية الانسان، وغير ذلك من المقاييس لا يعدو كونه هباءً غير ذي بال، لا سيما إذا تذكرنا ان مظاهر الوجود لا محالة آيلة الى الزوال والانعدام في يوم من الايام كان عند الله موقوتاً.


ولا ادل على ما تقدم بان آيات القرآن المجيد تحدثنا وبمطلق الوضوح والصراحة عن هذه الحقيقة ؛ حيث تقول : « رَبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِِيمَانِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبِّكُمْ فَاَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّاَتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ » (آل عمران/193(


ان المضامين القيمة التي تختزلها هذه الآية المباركة تعبر - فيما تعبر - عن نداء إلهي مباشر لبني آدم، وما ينبغي ان يكون عليه اعتقاده وسلوكه وشخصيته. فالآية تتحدث عن شريحة من المؤمنين سمعوا نداء الايمان فلم يكن بوسعهم - حسب شخصيتهم الراقية - إلا ان يسلموا لهذا النداء تسليماً، معتقدين بأن لا ثقل للاعمال الطيبة الصادرة عنهم - رغم وجوبها واهميتها - فهم على يقين من امرهم وامر ربهم - بعد معرفتهم به - بان لا خلاص لهم من الذنوب والموبقات سوى رحمة الله تعالى، نظراً الى انه المنّان الرحيم و الكريم، فالتوحيد ؛ والتوحيد فقط هو المنقذ من السيئات والموصل الى النعيم الابدي. والتوحيد لا يكون ولا يتأتى إلا بعد معرفة الله جل جلاله.


وثَم قول عظيم لرسول الله صلى الله عليه وآله يؤكد فيه ان " التوحيد ثمن الجنة "([9]) وان " وَحِّدِ الله تشتري بتوحيدك الجنة ".


وقد روى أبوذر الغفاري رحمه الله انه قال : خرجت ليلة من الليالي فاذا رسول الله صلى الله عليه وآله يمشي وحده ليس معه إنسان فظننت انه يكره ان يمشي معه أحد، فجعلت امشي في ظل القمر، فالتفت فرآني فقال: من هذا؟ قلت: ابوذر جعلني الله فداك. قال: يا أباذر تعال، فمشيت معه ساعة. فقال: إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه بيمينه وشماله وبين يديه وورائه وعمل فيه خيرا. قال : فمشيت معه ساعة، فقال : اجلس هاهنا - وأجلسني في قاع حوله حجارة - فقال لي : إجلس حتى أرجع إليك. قال : وانطلق في الحرَّة حتى لم أره وتوارى عني فأطال اللبث، ثم إني سمعته عليه الصلاة والسلام وهو مقبل وهو يقول : وإن زنى وإن سرق، قال : فلما جاء لم أصبر حتى قلت : يا نبي الله جعلني الله فداك من تكلمه في جانب الحرة؟ فإني ما سمعت احدا يردّ عليك شيئا، قال: ذاك جبرائيل عرض لي في جانب الحرة؛ فقال: بشِّر أمتك انه من مات لا يشرك بالله عز وجل شيئا دخل الجنة، قال : قلت : ياجبرائيل وان زنى وان سرق ؟ قال نعم وإن شرب الخمر.([10])


وبالرغم من ان الشيخ الصدوق - قدس الله نفسه الزكية - وغيره من العلماء الابرار كانوا قد علّقوا على هذا الخبر بان مثل هذا الانسان الذي تحدث عنه الامين جبرائيل عليه السلام لا يموت حتى يوفقه الله سبحانه وتعالى الى التوبة قبيل مماته وإن العلامة المجلسي يقول : لا ينبغي الاغترار بتلك الاخبار والاجتراء بها على المعاصي.


ولكن يبدو ان الأمر بين امرين كما اشار عدة من العلماء الأخيار، اذ ان الحالة المثلى لايمان الانسان وانطلاقا من معرفته بالله ان يعيش حالة الرجاء والخوف. فهو يرجو الله ورحمته وكأنه لم يعصه قط، ويخاف الله وعقابه وكأنه لم يطعه قط.


وعلى اية حال ؛ فان الداعي الى تداول العرفان الاسلامي يكمن وراءه سببان رئيسيان :


الأول : ان امواج الثقافة الدخيلة المشوشة على طبيعة مجتمعاتنا الاسلامية وافرادنا المسلمين قد تؤثر فينا مالم نكن متحصنين بحصن التوحيد ومعرفة الله. ففي العقائد لايجوز التقليد، وإنّما على كل فرد أن يمتلك المقياس القرآني الذي عبره يعرف ربه حق المعرفة. وإنما يتأتى ذلك عبر تلاوة القرآن الكريم، والتدبر في آياته. فبصائر القرآن التي نطقت بها الآيات الشريفة، وفسرها الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله والائمة الهداة من أهل بيته، هي المقياس الذي ينبغي على كل واحد منا أن يمتلكه.


الثاني : ان اشرف العلوم واوجبها هو علم الدين، وهو بدوره ذو درجات، وارفعها هو توحيد الله سبحانه وتعالى.


الفصل الثاني :علـم الكـلام


عرفنا مما سبق من البحث حول تأريخ تسرب الافكار الفلسفية الى البلاد الاسلامية ؛ ان المدارس الفلسفية التي كانت تحيط بالعالم الاسلامي ابان بزوغ نور الاسلام، وبالذات مدرسة الاسكندرية، اختلطت فيها الافكار الفلسفية المنسوبة الى افلاطون شيخ فلاسفة الاشراق، بالثقافات والمعارف التي كان المسيحيون وقتها يعتقدون بها. ومن خلال هذا الخلط نشأت المسيحية الجديدة المعروفة اليوم، والتي أدانها القرآن الكريم باعتبارها مضاهئة للكفار الذين كانوا قبلها حيث قال ربنا سبحانه:


« وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِاَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (التوبة/30). كما إن المسلمين لم يظلوا بعيداً عن التأثر بهذه الافكار الفلسفية، فانتشرت فيما بينهم الافكار الانتقائية التي كانت تمزج بين شيء من الافكار الاسلامية والنظرات الفلسفية البشرية الدخيلة.


ولمزيد من التفصيل لابد ان نستعرض تأريخ علم الكلام الذي يعتبر فرعاً من العلوم العقلية التي كانت ولا تزال مرادفة للفلسفة.


ماهو "الكـلام" :


ماهو علم الكلام وما هدفه، ولماذا سمّي بعلم الكلام؟


علم الكلام هو العلم الذي يدافع عن العقائد الاسلامية بالادلة العقلية.


أمّا لماذا سمّي بعلم الكلام فقد قال البعض: لان المنشغلين بهذا العلم كانوا يعنونون فصول مباحثهم بلفظة كلام فيقولون - مثلاً - كلام في توحيد الله، كلام في القدر، وهكذا...


وبعض احال التسمية لماهية البحوث، ولان اكثر ما بحث هذا العلم انما بحث موضوع كلام الله عز وجل هل هو قديم ام حادث، وهذه المسألة قد أشغلت المسلمين حوالي قرنين من الزمان.


وبعض آخر ألجأ هذه التسمية الى المعنى، وذلك لأن الفلاسفة سموا علمهم بالمنطق، ولأن ترجمة كلمة (المنطق) في اللغة العربية، هو الكلام. ولذا أطلق الفلاسفة المسلمون على علمهم اسم (الكلام).


والقول الثالث هو الأظهر، ومنه يتبين انه حالة من التقليد الذي كان علماء الكلام يمارسونه بالنسبة الى الفلاسفة.([11])


سامري هذه الامة:


في رواية عن أبي يحيى الواسطي قال: لما فتح امير المؤمنين عليه السلام البصرة اجتمع الناس عليه وفيهم الحسن البصري ومعه ألواح، فكان كلما لفظ أمير المؤمنين عليه السلام بكلمة كتبها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام - باعلى صوته - : ما تصنع ؟ قال : نكتب آثاركم لنحدث بها بعدكم. فقال له امير المؤمنين عليه السلام: اما وان لكل قوم سامريـاً وهذا سامري هذه الامة، أما إنه لا يقول (لا مساس) ولكنه يقول لا قتال"([12]).


والذي يبدو واضحاً وجلياً من هذا النص وغيره مما سيأتي هو وجه التشابه بين سامري بني اسرائيل والحسن البصري. فسامري بني اسرائيل أخرج لهم عجلا جسدا له خوار وقال هذا إلهكم وإله موسى فأضل به شطراً كبيراً من جماهير بني اسرائيل، ومثله فعل الحسن البصري الذي عمل على سلب المسؤولية عن الدين الاسلامي ودفع البحوث العقائدية ونحا بها منحى يجرد فيه الايمان عن العمل. والبصري هذا الذي آخاه أمير المؤمنين بابليس في رواية نقلها الطبرسي في الاحتجاج (ج 1 / ص 171) أسس مدرسة ضالة في القدر، التي ذمها الرسول صلى الله عليه وآله وحذرالامة منها فيما روى عنه صلى الله عليه وآله جماعة من علماء الاسلام انه قال: "لعنت القدرية على لسان سبعين نبياً " قيل : ومن القدرية يا رسول الله ؟ فقال : قوم يزعمون أن الله سبحانه قدّر عليهم المعاصي وعذبهم عليها "([13]).


وقال ابن عباس: مرّ (أميرالمؤمنين عليه السلام) بالحسن البصري و هو يتوضأ، فقال: يا حسن أسبغ الوضوء، فقال : يا أميرالمؤمنين لقد قتلت بالأمس اناساً يشهدون أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، يصلون الخمس و يسبغون الوضوء، فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام : فقد كان ما رأيت فما منعك أن تعين علينا عدونا ؟!


فقال : والله لأصدقنك يا أميرالمؤمنين، لقد خرجت في أول يوم فاغتسلت وتحنطت وصببت عليَّ سلاحي، و أنا لا أشك في أن التخلف عن ام المؤمنين عائشة هو الكفر، فلما انتهيت إلى موضع من الخريبة ناداني مناد : " يا حسن إلى أين ؟ ارجع فإن القاتل والمقتول في النار"، فرجعت ذعراً وجلست في بيتي، فلما كان اليوم الثاني لم أشك أن التخلف عن ام المؤمنين عائشة هو الكفر، فتحنطت وصببت عليَّ سلاحي وخرجت أريد القتال، حتى انتهيت إلى موضع من الخريبة فناداني مناد من خلفي: " يا حسن إلى أين؟ فإن القاتل والمقتول في النار ". قال علي عليه السلام : صدقك أفتدري من ذلك المنادي؟ قال: لا. قال عليه السلام : ذاك أخوك إبليس و صدقك، إن القاتل والمقتول منهم في النار، فقال الحسن البصري: الآن عرفت يا أميرالمؤمنين أن القوم هلكى". ([14])


الحسن البصري هذا هو الذي اسس مدرسة الاشاعرة وفي ظل مدرسته، نمت مدرسة الاعتزال على يد تلميذه واصل بن عطاء الذي يصف استاذه البصري بأنه يتغير بين عشية وضحاها، وانه لا يستقر على رأي، وأنه كل يوم هو في شأن. ففي يوم يقول بالقدر، أي ان الله سبحانه هو الذي قدّر اعمال العباد وليس للعباد شأن في اعمالهم، وفي يوم آخر يقول إن العمل هو من شأن الانسان وحده. وفي يوم ثالث يقول إن علم الله سبحانه حادث، وفي رابع يقول علم الله قديم، ومرة يقول خلق الله للخلق حادث، وأخرى يقول قديم.


وربما يتصور ان هذا التلون والتغير في آراء الحسن البصري كان سبباً لانعزال تلميذه واصل بن عطاء عن مدرسة استاذه، لكن الحقائق التأريخية التي سادت تلك الفترة تكشف بوضوح عن سبب رئيسي آخر هو أن الازارقة - وهم فرع من فروع الخوارج - كانت لهم السلطة آنذاك على البصرة، وكانوا يزعمون بان مرتكب الكبيرة كافر وأنه خالد في النار، بينما كان الحسن البصري يقول انه ليس بكافر. فكان لابد لواصل، وهو كأستاذه يعيش حالة الانهزامية، ولكي يتهرب عن تحمل عناء الوقوف امام الحكام المتطرفين واصحاب النفوذ، ولكي ينسلَّ عن قضايا الثورة التي كان يقودها أهل بيت الرسول صلوات الله عليهم اجمعين دفاعا عن الرسالة الالهية. كان لابد له أن يخرج برأي توفيقي بين آراء استاذه وآراء السلطة الحاكمة، فأسس مذهبا يقول إن مرتكب الكبيرة ليس بكافر ولـيس بمسلم وانما هو منزلة بين منزلتين فهو إذن فاسق([15]).


وقد اطلق اسم المعتزلة على المدرسة التي اسسها واصل بن عطاء بعد ان طرده استاذه الحسن البصري من حلقة درسه لمخالفته لاقواله، فاعتزل في زاوية من المسجد واتخذ لنفسه حلقة جديدة والتحق به عمرو بن عبيد، وبذلك سمي بالمعتـزل، وسميت مدرسته بالمعتـزلـة، وقد أنشعبت فيما بعد الى اثنتيـن وعشريـن فرقـة.


لماذا علم الكلام ؟


حينما تعرضت ثقافة المسلمين الى الارتجاج وسادتها الفوضى نتيجة الظروف السياسية والاجتماعية ؛ سيما بعد مقتل الخليفة الثالث، ظهرت على الساحة الاسلامية تساؤلات كان لها أثر لايستهان به في الحقل الثقافي، فاضطربت معها الافكار. وكانت سبباً دافعاً لعلماء الدين ان يُنشؤوا علماً أو فنـاً يستطيع ان يحافظ على توازن الجو الثقافي وعلى تعادل الفكر، هذا من جهة ؛ ومن جهة ثانية فان باب العلم الذي فتحه رسول الله صلى الله عليه وآله امام المسلمين على مصراعيه بقوله: " انا مدينة العلم وعلي بابها "، وقوله: " علي اقضاكم "([16]). وقوله: " من كنت مولاه فهذا علي مولاه "([17])، وكذلك باب الولوج الى المعارف الالهية الذي فتحه الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله بقوله: " اني تارك فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا : كتاب الله، وعترتي اهل بيتي "([18])، هذا الباب صدته رياح الجاهلية المتجددة في المجتمع الاسلامي الحديث، والأهواء التسلطية في بعض الفئات التي عملت على إبعاد أهل بيت العصمة عن مراكز التوجيه والتثقيف وبالتالي ابعاد الناس عن تفسير القرآن الكريم. فكان ان اجتاحت المجتمع الاسلامي افكار غريبة دخيلة، وكان ان احتاج الناس الى ثقافة بديلة فنشأت نظريات واسست مدارس فكرية مختلفة وهكذا وجد أمثال الحسن البصري وواصل بن عطاء وكانت المذاهب والمدارس الاخرى في علم الكلام وفي الفقه.


ثم ان انقلاب مجمتع الجزيرة العربية على واقعه المتخلف بفضل بزوغ نور الاسلام وظهور الرسالة المحمدية، كان انبثاقا للحضارة الاسلامية في القرن الاول الهجري، وحيث نشر الاسلام نوره على البقاع المجاروة للجزيرة وفتح المسلمون العراق وسوريا ومصر، اصطدموا حينها بالحضارة البيزنطية والفارسية القديمة، وكنتيجة طبيعية لهذا الاصطدام والاحتكاك بين الحضارة الاسلامية وتلك الحضارات تفاعلت الافكار فخرج الى حيز الواقع نمطان من التفكر يمثل احدهما فئة المتبعين للافكار الدخيلة وهم الفلاسفة كابن المقفّع وابن ابي العوجاء وعبد الله الديصاني وغيرهم من المتزندقة، وفئة أخرى أرادت ان توفق بين الامرين ؛ بين الافكار الدخيلة والافكار الاصيلة، وهؤلاء هم الذين أسسوا ما يعرف اليوم بعلم الكلام.


من تفكر في ذات الله تزندق :


وقد لعن رسول الله عدة فئات ومن جملتهم (القدرية) قال صلى الله عليه وآله : لعنت القدرية على لسان سبعين نبياً، قيل : ومن القدرية يارسول الله ؟ فقال : قوم يزعمون ان الله سبحانه قدّر عليهم المعاصي وعذبهم عليها([19]). ويقول القدرية: اننا نعمل الاعمال والله هو الذي يجازي ويتحمل مسؤولية اعمالنا، يقولون : علم الله قديم وعمل الانسان في علم الله ؛ فالله هو الذي قام بهذا العمل، وكثير من المسلمين ضلّوا السبيل ففسدت افكارهم وعقائدهم بسبب هذه الافكارالتبريرية، الافكار التي تبرر ما يفعله الانسان وترفع عنه الجزاء عما يرتكبه من كبائر وصغائر والتي سنتناولها بالبحث ونبيّن فسادها عقلاً وشرعاً.


والاعتقاد السائد عند بعض المؤرخين هو ان الحسن البصري هو اول من تكلم في القدر وان إليه تنتهي كثير من المذاهب العقائدية القائلة بتجريد الايمان عن العمل، وربما كان هو المشجع للتصوف والرهبنة بزعمه ان افعال العباد مخلوفة، ففي رواية في البحار عن أمير المؤمنين عليه السلام في القدر انه قال : " ألا إن القدر سرّ من سرّ الله وحرز من حرز الله، مرفوع في حجاب الله، مطوي عن خلق الله، مختوم بخاتم الله، سابق في علم الله، وضع الله عن العباد علمه، ورفعه فوق شهاداتهم لانهم لاينالونه بحقيقة الربانية ولابقدرة الصمدانية ولا بعظمة النورانية ولا بعزة الوحدانية لانه بحر زاخر مواج خالص لله عز وجل، عمقه ما بين السماء والارض، عرضه مابين المشرق والمغرب اسود كالليل الدامس، كثير الحيّات والحيتان ؛ تعلو مرة وتسفل أخرى، في قعره شمس تضيء لا ينبغي ان يطّلع عليها إلاّ الواحد الفرد، فمن تطلَّع عليها فقد ضادّ الله في حكمه ونازعه في سلطانه وكشف عن سرّه وستره وباء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير([20]). وقد وردت هذه الرواية جواباً قاطعاً لمن سأله عليه السلام عن القدر، وجاءت تحذيراً بان القدر امر خطير وتوجيهاً للانسان بأن يؤمن بوجدانه وبفطرته وانه مكلف حرّ ومريد في أعماله وان عليه الجزاء، واما ان يتعمق الانسان في ذات الله فذاك هو التفكر في ذات الله وذاك هو الزندقة، بينما يأتي سامري هذه الامة ليحدث الناس عن القدر فيبث الشبهات في افكار الناس ويضللهم.


والذي يبدو ان الحسن بن ابي الحسن البصري كان يسعى الى تبرير افكاره من خلال مراسلاته وكتاباته مع الائمة المعصومين، فلم يكن يجد إلاّ ردّاً قاطعاً، فقد روي عن العالم - الامام موسى بن جعفر عليه السلام - انه قال : كتب الحسن بن ابي الحسن البصري الى الحسين بن علي بن ابي طالب صلوات الله عليهما يسأله عن القدر، فكتب اليه " فاتبع ما شرحت لك في القدر مما افضي إلينا اهل البيت فانه من لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد كفر، ومن حمل المعاصي على الله عز وجل فقد افترى على الله افتراءً عظيماً " والذي يبدو ان الرجل كان يسعى لمثل ذلك، اذ انه اما كان يحمّل الله اعماله ومسؤولية تصرفاته واما انه كان يقول بان ليس لله شأن في مسألة القدر، لكن الحسين عليه السلام يقول في جوابه - : ان الله تبارك وتعالى لا يطاع بإكراه ولا يعصى بغلبة ولا يهمل العباد في الهلكة لكنه المالك لما ملّكهم... الى ان قال عليه السلام في نهاية الحديث: "فانا على ذلك اذهب وبه اقول، والله انا واصحابي ايضاً عليه ولله الحمد". ([21])


ممّا سبق تتضح طبيعة الظروف التي سادت المجتمع الاسلامي في تلك الفترة وطبيعة العوامل التي ادت الى نشوء علم الكلام، أئمة معصومون يضعون الحقائق أمام الناس من خلال احاديثهم وكتاباتهم ومراسلاتهم، ومسلمون يعيشون في متاهات هذا العلم ويتحدثون بما اسقط الله عنهم مسؤوليته، هكذا وفي مثل هذه الظروف انتشر علم الكلام، وهو وإن لم يكن ضاراً كله فقد كان مفيداً في بعض جوانبه، إلا إنه في مثل هذه الارضية وهذه الاجواء نشأت فرق منحرفة في الامة الاسلامية كالاسماعيلية والمانوية، والراوندية، والباطنية، فرق الّهت الائمة عليهم السلام ، فما من إمام من ائمتنا ابتداءً من الامام علي عليه السلام والى الامام الرضا عليه السلام إلاّ وقد أُلّه من قبل مجموعة من اصحاب الفلسفة الذين كانوا يحسبون أنفسهم -كذباً وزوراً- من الشيعة، وكان الأئمة الاطهار يحاربونهم أشد المحاربة.


ان الافكار الفلسفية هي التي سببت حدوث فرق عديدة بين المسلمين وكان اهمها الفرقتين الاساسيتين: فرقة المشاء وكان يمثلهم الفيلسوف المعروف ابن رشد، وفرقة الاشراق وكان يمثلهم ابن سينا والفيلسوف المعروف سهروردي.


الفصل الثالث : تاريـخ الفلسفـة


في عالم الفكر خطان لا يلتقيان إلا في مواضع يسيرة بسيطة ؛ ألا وهما خط الرسالات الالهية، وخط الفلسفة البشرية. ولكل من هذين الخطين تاريخه الممتد عبر الزمن. فمنذ هبوط أبينا آدم على هذا الكوكب، كان يحمل معه رسالة السماء الالهية التي سبقت وجود الحاجة اليها، فمع اول انسان جاءت رسالة السماء، وستبقى وتستمر الى آخر إنسان. وسوف لن تخلو الارض من حجة إلهية يحمل الرسالة الالهية.


ونحن لسنا بصدد البحث عن تأريخ الرسالات السماوية، وإنما ينبغي لنا ان نشير الى فكرتين قد نحتاج إليهما في سياق البحوث القادمة إن شاء الله تعالى.


الاولى : وحدة الهدف في الرسالات الالهية


لا ريب ان الخطوط العريضة لرسالات الله تبارك وتعالى واحدة، إذ كلها تدعو الى توحيد الله الخالق الواحد الاحد، والى تسبيحه وتقديسه وبيان أنه تعالى اكبر من ان يوصف بوصف.. وكلها تدعو إلى الخلوص في العبودية له جل وعلا، والى نفي الشركاء عنه ومحاربة الانداد الذين يُعبدون من دونه. وايضا فانها جميعها تدعو الى اصلاح النفس، وبالتالي الى اصلاح المجتمع الانساني. فالمعارف الالهية التي تكاملت على يد النبي الاكرم صلى الله عليه وآله هي ذاتها المعارف التي جاءت بصورتها المجملة مع آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهي ذات المعارف التي جاءت مع نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومع كل النبيين صلوات الله عليهم أجمعين.


إذن، فإن افلاطون مثلاً لا يمكن ان يكون نبياً، إذا كانت تعاليمه الاشراقية مخالفة لتعاليم نبينا صلى الله عليه وآله. بل وحتى زرادشت لايمكن ان يكون نبياً اذا كانت تعاليمه هي هذه المخالفة لتعاليم عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فان ما ينسب إليه من أفكار صوفية اشراقية ليست بحقيقة، لأنها مخالفة لما نعهده من معارف القرآن الحكيم.


فالفكرة الاولى هي بإيجاز: ان رسالات الله تعالى واحدة، ودعوتها واحدة، وثقافتها واحدة، وخطوط معارفها العريضة واحدة أيضاً لا اختلاف فيها إلا ما يعرض من التشريعات الجزئية التي تتغير مع الزمن.


الثانية : القرآن الكريم اكمل الرسالات الالهية


إن المعارف الالهية التي انبثقت من الرسالات الالهية نجدها في القرآن الكريم. فنحن لو تدبرنا الآيات الكريمة، نقف على ماكان يدعو إليه الانجيل والتوراة والزبور ومئة وثلاثون ونيف من الكتب الالهية التي نزلت على البشر ؛ فمن خلال قراءة لسورة هود مثلاً او الشعراء او القصص، بل كل السور القرآنية الكريمة، يبدو واضحاً شمولية القـرآن الكريـم وهيمنته على كـل الرسالات السابقة له، بل ويظهر


بكل جلاء انه اكمل الرسالات واجمعها.


ومن خلال نظرة إلى ما كان يدعو إليه الانبياء والى ماهية الرسالات التي جاؤوا بها، والى تأريخ تلك الرسالات، نعرف كونها واحدة فيما جاءت به من المعارف الالهية، وان خطوطها العريضة واحدة ايضاً. وان القرآن الكريم هو أكملها.


إذاً فالذي ينبغي لنا ان نؤرخه هو الفكر البشري، ذلك الفكر الذي يولد ناقصاً فيتعامل خلال مسيرة تكامله مع العصور والازمان ثم يبدو أخيرا مناقضا لنفسه. ذلك الفكر الذي ينشأ حينا في اليونان وينتقل الى الاسكندرية ومن ثم الى أنطاكية ومنها الى الروم والى سائر بلاد العالم، فتتبدل صوره عبر الحضارات المختلفة كالحضارة الهيلينية والمصرية والفارسية القديمة وغيرها من الحضارات.


المعارف الالهية:


لكي نستعرض جانباً من الفلسفة البشرية، لابد لنا ان نبين ان الفكر إذا كان موحى من قبل الله تعالى الى الانسان، فذلك الفكر يكون مقدساً عن التأثر بالظروف، منّزها عن كل شائبة، بعيدا عن تأثيرات الحالات النفسية للانسان وظروفه الثقافية والاقتصادية والسياسية، كطبيعة الانتاج مثلاً او طريقة الحكم او ما اشبه ذلك ؛ لان هذا الفكر نزيه بعيد عن الهوى، فهو كعلم نبينا محمد صلى الله عليه وآله الذي يقول عنه ربنا سبحانه وتعالى : « وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى» ( النجم/3-4 (


فالجزيرة العربية إبان نزول القرآن بأحوالها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، لم تكن لتؤثر في ماهية المعارف القرآنية، بل العكس هو الصحيح إذ الرسالة المحمدية جاءت لتوجيه الانسان نحو التكامل، وذلك لأن القرآن الكريم ليس قرآن الجزيرة. فهو لم ينبت من أرضها ولم يكن وليد مجتمعها، و انما أوحي من قبل الله تعالى الملك القدوس الذي لا تخفى عليه خافية والذي لا يتأثر بالهوى، بينما الفكر البشري ليس كذلك اذ انه عادة ما يكون وليد الظروف.


اقتباس الافكار :


إن الفكر البشري ينبع من واقعه الذي يعيشه، فهو -إذن- تبع لها يتغيّر بتغيّرها. فالظروف في الحقيقة هي التي تتحكم عادة في فكر الانسان، وبالتالي فهي المبلورة لهذا الفكر، فحيث تتوافر ظروف متشابهة لانسانين مختلفين في مكانين متباعدين مكاناً وزماناً، نتوقع حينها ان تنتج هذه الظروف المتشابهة فكرتين متشابهتين دون أن يكون هناك ادنى لقاء بين هذين الرجلين، لان بينهما قرون متباعدة من الزمان ومسافات شاسعة لا تجتازها القوافل التجارية او الوسائل العلمية. وكذلك لا يبعد أن يكون هناك وقبل آلاف السنين - قبل تسعة آلاف سنة مثلاً - في مصر من كان يفكر بنفس الفكرة التي يفكر بها شخص يعيش في الهند هذا العام ؛ إذا ما افترضنا تشابه ظروفهما، دون أن يكون أحدهما قد اقتبس من الآخر.


فالثورة - مثلاً - تولد بسبب ظروف خاصة وعوامل معينة، فحيث يكون هناك ظلم وكان قباله تحدٍّ للظلم، وحيث ما تكون هناك فكرة تستجمع هذا التحدي، وقيادة تركز هذا التحدي وتوجهه فسوف تكون هناك ثورة.


ومثل هذا الامر مثل الاختراعات، إذ قد يخترع رجل اختراعاً في مدينة ألمانية وآخر يخترع نفس الاختراع في نفس العام، بل ونفس الشهر ايضاً في مدينة امريكية، فهذا لايعني بأي وجه ان احدهما اقتبس اختراعه من الثاني.


ونحن انما نقول هذا لكي نؤكد على أنه ليس مستبعداً ان تكون هناك افكار قد انتجتها عبقرية اليونان القديمة ثم أنتجتها مرة أخرى عبقرية فيلسوف مسلم عاش في القرن السادس الهجري، لكنا لا نقول بأن اي منهما اقتبس أفكاره من الآخر. نعم المؤرخون للفلسفة وللثقافات عادة يحاولون أن يربطوا بين المفكرين بعضهم مع بعض، فيقولون إن هذا المفكر انما اقتبس أفكاره من ذاك المفكر لمجرد التشابه في الفكرتين اولمجرد ان احدهما سبق الآخر في انتاج هذه الفكرة. ونحن نقول لهم إن انتقال الفكر من جيل الى جيل آخر، ومن بلد إلى بلد آخر أمر ممكن سيما في عصرنا هذا الزاخر بالممهدات والوسائل العلمية المتقدمة لمثل هذا الانتقال ؛ لكن ذلك لا يعني بأي وجه ان كل من فكّر بما فكّر به الآخرون انما يكون قد اقتبس منهم او قلدهم فيه.

لمحة تأريخية:


قبل آلاف السنين كان هناك مفكرون في الصين وآخرون في الهند ومصر، غير ان بداية تجمع الفلسفة بل وتحولها الى مدرسة معروفة لدينا انما كان في اليونان - الاغريق القديم -. فسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطو ومجموعة آخرون من الفلاسفة كانوا في اليونان، وهؤلاء هم الذين استطاعوا ان يبلوروا الفكر الفلسفي القديم وان يكتبوا هذا الفكر وينشروه، وحين أدّت الظروف السياسية والعسكرية الى قيام حروب ومنازعات، و حينما التقت جيوش اليونان في عصر الاسكندر بجيوش الفرس، ساعدت الظروف حينها على التقاء الافكار وتبادل الفلاسفة أفكارهم، وكان لقاء الفلسفة الغربية بالفلسفة الشرقية من أمثلة هذه القاعدة.


اما الفترة التي سبقـت بزوغ نور الاسلام فقد كان هناك وفـي آسيـا الوسطى بالذات


اربع مدارس فلسفية، بل أربعة مراكز للفلسفة، كان أهمها ماكان في الاسكندرية ومركز آخر في العراق وآخر في ايران - في جندي شابور - ورابع في حوالي سوريا. هذه المدارس لا نعرف مدى تأثر المسلمين بها، لكن الذي ينبغي ان نقف عنده طويلا هو مركز الاسكندرية، إذ هو المركز الأساسي الذي التقى به الفكر الاسلامي بالفكر الغربي، فمنذ القرن الثاني للميلاد مستمرا الى القرن السابع للميلاد - القرن الثاني للهجرة - كانت الاسكندرية مركزاً للفلسفة اليونانية التي تبلورت فيها فكرة سميت فيما بعد بـ" الافلاطونية الجديدة ".


الفيلسوف اليوناني أفلاطون، تلميذ سقراط واستاذ أرسطو، ابتدع مدرسة معينة في الفلسفة سميت بمدرسة الاشراق، والظاهر إن هذه التسمية جاءت لان افلاطون كان يعتقد بعالم المثل، وباشراق عالم الحقيقة على عالم المثل، وذلك في نظرية له طويلة سنتعرض لذكرها في البحوث القادمة إن شاء الله تعالى.


اما ارسطو تلميذ افلاطون فقد اختلف مع هذه المدرسة، فابتدع بدوره مدرسة أخرى سماها المدرسة المشائية او مدرسة المشائين.


الافلاطونية الجديدة :


ولأن الاسكندرية بمصر كانت مركزاً مهما لالتقاء الفكر الغربي بالفكر الشرقي ابان حروب الاسكندر، وإنها كانت قبل بزوغ نور الاسلام مركزا مهما من مراكز الفلسفة، ومدرسة من مدارسها، كان طبيعياً ان تظهر في هذه المدرسة افكار جديدة كنتيجة طبيعية للأجواء الفكرية التي سادت هذا المركز الفكري. فقد عاش في الاسكندرية فلاسفة ومفكرون كان منهم " امونيوس سكّاس"([22]) [النصف الاول من القرن الثالث للميلاد] الذي تأثر بتعاليم افلاطون وعمل على تطويرها بحيث تنسجم مع المفاهيم الارسطووية والشرقية([23]) وبذلك أسس ما أطلق عليه بـ"الافلاطونية الجديدة" وكان "فلوطين"([24]) من أبرز تلاميذ "امونيوس" وقد عمل على بلورة مذهب استاذه "الافلاطونية الجديدة" وقد اعتبره البعض مؤسس هذا المذهب وليس استاذه، وقد تأثر "فلوطين" هذا بالرسالة الالهية التي هبطت على المسيح بن مريم عليهما السلام، ولانه كان فيلسوفا معتقدا بأفكار افلاطون، أراد ان يمزج بين أفكار افلاطون من جهة وبين الرسالة الالهية من جهة ثانية، فكانت نتيجة محاولاته تلك ونتيجة هذا المزج بين ما يعتقد به من الافكار الافلاطونية وما تأثر به من الرسالة الالهية ان خرج بما سمي بعدئذ بالاقانيم الثلاثة فقال : إن الله ليس واحداً وإنما هو ثالث ثلاثة، الله أي الاب والابن، والروح القدس الفاصل بين الاب وبين الابن.


لكن الذي يجدر بالذكر ان الاحبار - اعني علماء المسيحية - خالفوا في البدء هذه الفكرة المستحدثة ؛ فكرة خلط المعارف الالهية والتعاليم السماوية بالفلسفة البشرية، معترضين بأن ذلك تحريف وزيادة في الدين. غير ان تغيّر الظروف الاجتماعية والسياسية دفع المسيحين واضطرهم الى مبايعة امبراطور الروم خوفاً من اضطهاد اليهود لهم، وطمعاً في استدراج امبراطور روما لدينهم، فراحوا يخضعون للفلسفة الافلاطونية الجديدة. فكان ذلك سببا لدخول الشرك والافكار الغنوصية والحلولية في الديانة المسيحية، وكانت الاسكندرية على يد (امونيوس) وعلى يد تلميذه (فلوطين) بابا ولجت منه الافلاطونية الجديدة في الديانة المسيحية.


قبول الاحبار والرهبان للافلاطونية الجديدة انما كان بسبب رغبتهم الملحة وحرصهم الشديد على جلب الناس للدين. هذه الرغبة وذلك الحرص استدعى ان يلجأ هؤلاء الرهبان والاحبار الى التخفيف في أحكام الدين وتسهيل تشريعاته، وبالتالي خلط الرسالة الالهية بالفلسفة البشرية وبالشكل الذي يتمشى واهواء الناس. فراحوا يغيرون معالم الديانة الاساسية، وكان ذلك بالنتيجة سبباً في استحداث أنواع جديدة من الديانات الممسوخة البعيدة عن الرسالة الالهية كل البعد.


والدين الاسلامي الحنيف لم يكن أيضاً في مأمن من عبث العابثين ولا في منئا عن أهواء النفس البشرية. فمنذ ان دخل الاسلام الهند مثلا واعتنق الناس الاسلام الحنيف راحت تيارات التغيير واساليب التبديل تلعب دورها في حرف هذه الرسالة السماوية، فظهرت الديانة السيخية التي هي في الواقع تحريف للاسلام، بل وظهرت الديانة القاديانية على يد القادياني، كما استحدثت الديانة البهائية على يد محمد علي بهاء. وليس هذا فحسب، بل وكل المذاهب المنحرفة التي انبثقت من الديانات الالهية المستقيمة انما كانت بسبب اختلاط الافكار البشرية بهدى الله سبحانه وتعالى وبالرسالات السماوية ؛ هذا الاختلاط الذي سبّب انواعاً جديدة مستحدثة من المذاهب والديانات البعيدة عن الرسالات السماوية السمحاء كل البعد.


ولابد أن نشير هنا الى أن عدداً ليس بقليل من علماء المسلمين سلكوا طريق الانحراف هذا وابتلوا بهذا الداء، كل ذلك من أجل ان يجمعوا حولهم انصاراً واعواناً. فراحوا يغيّرون الدين ويحرّفون الكلم عن مواضعه ويخففون من أحكام الدين وواجباته ويهوّنون على المكلف واجباته ويسهلون تشريعاته ترغيباً بالدين وجذباً إليه، ولكنهم بفعلهم هذا لا يبعدون الناس عن الدين فحسب بل ويعملون شاؤوا أم أبوا على تضعيف روح الايمان الصادق لدى النفوس المؤمنة.


الفلسفة ومسيرة الفكر الاسلامي :


منذ نهايات القرن الاول وخلال القرنين الثاني والثالث للهجرة، كانت مدرسة الاسكندرية فاعلة ومؤثرة في مسيرة التفكر الانساني، وقد بلغ ذلك التأثير حداً كبيراً في ايام خلافة عمر بن عبد العزيز، حينما انتقلت هذه المدرسة من الاسكندرية إلى انطاكية لاسباب تأريخية، وخلال هذه الفترة أيضا كان لها تأثيرها الملموس في تفكر بعض المسلمين جنباً الى جنب مع مدرسة رهى حوالي حلب، ومدرسة انطاكية ومدرسة جندي شابور في ايران، ومدارس فلسفية أخرى تركت أثرها على مسيرة الفكر الاسلامي، و الذي يبدو ان مدرسة الاسكندرية كانت أكثر اثراً وابعد تأثيراً من قريناتها الاخرى، وهذا ما سنبيّنه في بحوث قادمة.


ولدراسة تاريخ الفلسفة عند المسلمين، لابد ان نبيّن مدى تفاعل عرب الحجاز قبل الاسلام مع الفلسفة. جاء في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب (نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام) للدكتور علي سامي نشار -الذي يعتبر حجة في موضوعه- وهو يؤرخ للفلسفة الاسلامية: "ولكن الامر عاد الى معاوية بن ابي سفيان ولم يكن المسلمون بعد قد تناسوا اباه هذا الغنوصي القائم، هذا الثنوي المجوسي الذي لم يؤمن أبدا"، ويضيف: "ومهما قيل في معاوية ومهما حاول علماء المذهب من السلف المتأخر ومن اهل السنة من وضعه في نسق صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله فان الرجل لم يؤمن ابدا بالاسلام، ولقد كان يطلق نفثاته على الاسلام كثيراً ولكنه لم يكن يستطيع ان يفعل اكثر من هذا".([25])


وهذه ليست تهمة يوجهها النشار لشخص معاوية لموقف معادٍ له، فالكاتب يتميز بافكاره المتطرفة ضد الشيعة والتي يستقيها من المستشرقين الذين طرقوا فرق الشيعة وتأريخهم السياسي، فهو في تصريحه هذا إنما يعتمد على جملة من المصادر التأريخية التي تثبت بالحرف الواحد ما يذهب اليه. يقول الدكتور ناجي التكريتي هناك دلائل كثيرة تشير الى أن النقل والاطلاع على فلسفة اليونان بدأ في عصر الدولة الأموية، وفي صدرها بالذات. ([26])


إذن كان لابي سفيان صلات بالأفكار الغنوصية، والافكار المجوسية والافكار الافلاطونية الجديدة منذ عهد ما قبل الاسلام، وهذا لأن العرب كانوا يتفاعلون مع الحضارات، ويحتكون بمجتمعاتها وبافكارها وهذا يؤكد الفكرة القائلة بأن السلطات السياسية كانت وراء ترجمة الافكار الفلسفية الشركية الى اللغة العربية، لمقاومة الخط الرسالي الواضح، ولمقاومة المفسرين والفقهاء من أهل البيت عليهم السلام وبالتالي لدعم سلطاتهم، ومن اجل مقاومة نور الاسلام وهدى القرآن، وهذا ما سنأتي عليه بمزيد من التفصيل باذن الله تبارك وتعالى.


الفصل الرابع : فلسفة هيلينية بلغة عربية


قبل ان نتحدث عن تأريخ الفلسفة التي تسربت الى البلاد الاسلامية وذلك ببيان فلسفة شيخ الاشراق " سهروردي " الذي كان يعتبر ذا خط فلسفي محدّد، خصوصاً في البلاد الاسلامية الشرقية. لابد وان نشير الى ملاحظتين أساسيتين :

1 / مقياس الثقافة


يبحث الانسان عادة عن مقياس للثقافة يستطيع ان يحدد به الافكار التي ترد عليه، فيميّز بين ماهو نافع وما هو ضار من الافكار التي يستقبلها. فكثيراً ما نواجه السؤال القائل : ماهي الثقافة الاصيلة، وماهي الثقافة الدخيلة ؟ ماهي الثقافة التي يمكننا ان نستسلم لها من دون تردد، وماهي الثقافة التي لابد ان نرفضها ؟


ان أي ثقافة إنما تنتهي بالتالي الى خطوط عريضة تجمعها الفلسفة، فكل ثقافة تقع ضمن اطار معين، وتنطلق من قواعد اساسية محددة. وهذه القواعد هي التي يجب ان نقف عليها ونفهمها لكي نفهم طبيعة تلك الثقافة.


فاذا اردت أن تعرف طبيعة ثقافة انسان ما، فإن عليك الوقوف على الفلسفة التي


يؤمن بها ؛ فلو كان - وعلى سبيل المثال - يؤمن بالفلسفة المادية، فان هذه الفلسفة سوف تكتنف كل جوانب تفكيره وستؤطر افكاره وتحدد ثقافته وسائر معلوماته ومعارفه ضمن تلك الحدود المادية، ولو كان يؤمن بالحكمة الالهية، فان هذه الحكمة سوف تؤطر افكاره أيضاً.


وإذا كانت هذه الحقيقة معروفة واضحة فلا بد ان نبني عليها حقيقة أخرى، وهي ان ثقافة البشرية جمعاء تعود بالتالي إلى خطين اساسيين : خط الفلسفة الالحادية الشركية، وخط الفلسفة الايمانية التوحيدية. وبالتالي فان كل ما عند البشر من الثقافات يعود الى أحد هذين الجذرين الرئيسين ؛ جذر الشرك أو جذر التوحيد.


إمتدادات الحضارة الهيلينية:


والجذر الاول، وهوجذر الشرك في عالمنا اليوم يرجع الى لون واحد من الثقافات. وقد توصل المؤرخ المعروف "آرنولد توينبي" (1889-1975) الذي درس الحضارات البشرية والثقافات التي نبتت من أرضيتها تلك الحضارات، الى نتيجة واحدة، وهي انه كانت هناك حضارات عديدة في العالم، وربما كانت تزيد على عشرين حضارة لكنها بادت وانتهت، وان الحضارة القائمة اليوم انما هي واحدة من تلك الحضارات وهي المسماة بالحضارة الهيلينية. والحضارة الاوربية الحديثة -إن استطعنا ان نطلق عليها اسم حضارة- ليست إلا امتداداً للحضارة الهيلينية القديمة([27])، بل لوتصورنا ان الحضارة الهيلينية كتابا فما تسمى اليوم بالحضارة الاوربية ليست إلا نسخة عن ذلك الكتاب.


استطاع اليونان ان ينشروا افكارهم بما كانت لهم من قدرات كافية عبر موجات متلاحقة ومترامية الى مختلف البقاع والآفاق، فقد انتقلت افكارهم الى روما واستمرت خلال القرون الوسطى حتى تجددت فيما يسمى بعصر النهضة. فمنطق ارسطو مازال يدرّس في الجامعات الاوربية الى يومنا هذا، وأن اللغة اليونانية هي جذر لغة الاوربيين وحضارتهم. وهذا الاعتقاد يبدو واضحاً جلياً لنا لو استقرأنا التعابير والاصطلاحات العلمية التي يستخدمونها في كتبهم. ففي اي كتاب غربي لابد وان نواجه مثلا التعبير (لوجيك Logic) وهي يونانية لاتينية الاصل وتعني المنهج او المنطق، وتستخدم في الكلمات الاوربية الحديثة بمعنى العلم، كـ(علم وظائف الاعضاء - الفسيولوجيا Physiology) و(علم النفس - السيكولوجيا Psychology) و(علم الاجتماع - السوسيولوجيا Sociology) إلى غير ذلك من الاصطلاحات المستخدمة اليوم لدى الغرب.


كما ان فلاسفة المسلمين هم أيضاً تأثروا بأفكار فلاسفة اليونان عبر مدرسة الاسكندرية، وذلك يعني ان الفلسفة المتأثرة بالفلسفة اليونانية انما هي امتداد للحضارة الهيلينية ايضا. فنحن إذا ما استثنينا القرآن الكريم وما بقي على اصالته الربانية من الرسالات الالهية عند المسيحيين واليهود، يمكننا القول بأن ما في العالم اليوم لا يتجاوز الحضارة الهيلينية الشركية التي نشأت ابان عصر اليونان القدماء.


ثم إن ثقافة اي مجتمع انما هي وليدة الفلسفة التي يؤمن بها ذلك المجتمع، وهذا ما نلحظه واضحا في المجمتعات الغربية. فالتعصب العنصري والانانية وحب الذات المتأصلة في الجاهلية الغربية، انبثقت كلها من قاعدة الشرك؛ والشرك لا ينتج إلاّ الجهل، بل الشرك والجهل صنوان لايفترقان. وقد تغيب الحقيقة عن البعض فيعتقد ان اوربا انما ابتعدت عن الايمان في عصر النهضة، وهذا خطأ كبير؛ فأوربا كانت بعيده عن الايمان الحقيقي منذ زمن سحيق، والاوربيون بعيدون عن الايمان بالله الواحد الصمد الفرد الاحد الذي نؤمن به نحن عبر منهج القرآن الحكيم، وانما آمنوا بأفكار الافلاطونية الجديدة التي دخلت في المسيحية عبر مدرسة الاسكندرية؛ كما أسلفنا.

2 / خلط الوثنية بالدين


سبق وان ذكرنا ان من السمات التي اتسمت بها الافلاطونية الجديدة هو خلط الافكار الشركية بالتعابير الدينية. فاليونانيون القدماء قالوا بالصادر الاول والصادر الثاني ؛ كذلك قال هؤلاء بان الله ولد الصدر الاول وهو روح القدس، وهذا ولد الصدر الثاني وهو عيسى بن مريم، وهكذا جاءت نظرية الولادة او ما تسمى بنظرية الفيض أو نظرية الصدور.


وهنا يبرز تساؤل مهم وهو أن هناك ثمة توافق زمني بين نشوء الافلاطونية الجديدة بالنسبة الى ولادة المسيح، وبين غزو الافكار الاغريقية لمناهج بعض فلاسفة المسلمين. فالافلاطونية الجديدة التي مزجت الديانة المسيحية بالفلسفة الاغريقية، انبثقت ابان القرن الثاني والثالث للميلاد بينما نرى انه في القرن الثاني والثالث الهجري كان نشوء هذا الغزو في أوساط المسلمين. فنشأت افكار الصدور والحلول حيث نجد آثار هذا الغزو والتأثر في رسائل اخوان الصفا، التي تشكل أفكار مجموعة من الفرقة الاسماعيلية الباطنية التي عمدت الى عرض الافلاطونية الجديدة بتعبيرات اسلامية فقالت بأن الصادر الاول هو الولي وبحلول روح الله في أئمة الاسماعيلية. فالفاصلة الزمنية بين مبعث الرسالة المحمدية وبين هذه الافكار الدخيلة هي نفسها التي بين بعثة عيسى بن مريم والافلاطونية الجديدة. والتساؤل المهم هو :


لماذا هذا التوافق الزمني؟ إن المهم هنا هو فهم هذه المقارنة قبل الدخول في متاهات الفلسفة ومصطلحاتها المعقدة وافكارها المتشابهة.


اننا بالرجوع الى انفسنا، سنجد اننا انما نؤمن بفطرتنا وان جماهير الناس يؤمنون بفطرتهم؛ والانبياء انما جاؤوا بالاسلوب الفطري، وبعثوا في الناس روح الفطرة واعادوهم الى وجدانهم وفطرتهم "ليستأدوهم ميثاق فطرتهم ويثيروا فيهم دفائن العقول" تلك العقول التي غطاها ركام من الخرافات والاساطير والانحرافات الفكرية التي جاء بها الفلاسفة. فإذا جاز ان نشبه العقول بالكنوز التي تختفي تحت الارض، ويأتي من يعرف باماكن وجودها فيثير الارض ليستخرجها ؛ جاز لنا ايضا ان نقول ان الانبياء جاؤوا ليزيلوا تلك الاساطير والخرافات التي غطت العقول وغشيت والابصار.


ان الفلاسفة الذين حاولوا صهر الحكمة الالهية والافكار الشركية الوضعية في بودقة واحدة ليستخرجوا منها سبائك معينة وضمن قوالب ضيقة تتمشى ومآربهم هم الذين قاوموا رسالات الانبياء ووقفوا في صف المتسلطين على رقاب الناس؛ فحينما بعث عيسى بن مريم عليه السلام وخاطب الناس بفطرتهم ؛ وقال اني رسول الله اليكم، اخبركم بما تدخرون في بيوتكم، وأحيي الموتى باذن ربي، وان الله يشفي الامراض العضال على يدي، واني ابرئ الاكمه والابرص باذن الله، وان هذه معجزاتي التي جئت بها، وهذه اخلاقي وهذه رسالتي.. صار الناس يؤمنون برسالته شيئا فشيئا حتى القرن الثالث من الميلاد وحينما رأى الفلاسفة ان الناس بايمانهم بالمسيح ابتعدوا عنهم وانعتقوا من تسلطهم. حينها عمل بعض الفلاسفة على خط يستقطب الزخم الجماهيري من جهة ويحافظ على جوهر افكارهم الفلسفية من جهة أخرى، فعمدوا الى خلط الافكار الاغريقية الجاهلية الوثنية بتعاليم المسيح فقالوا بالاقانيم الثلاث؛ وقالوا نحن نؤمن بالمسيح، ولكن المسيح ليس بشرا مثلنا، وانما هو إله. ونؤمن بمريم، ولكن مريم ليست كأي انسانة أخرى، وانما هي روح القدس. فعيسى ابن الله، والواسطة هي روح القدس، وبالتالي افرغوا الديانة المسيحية من روح التوحيد.


ثم يعيد التأريخ نفسه في الامة الاسلامية التي آمنت بالرسالة المحمدية، حيث راح الناس يقرؤون القرآن ويفسرونه وفق الروايات وبما يفهمونه من اللغة العربية بتفاسير بسيطة تلتئم مع بساطتهم وفطرتهم. غير أن من تسلط باسم الدين واغتصب الخلافة الشرعية من أهلها، عمدوا الى تشجيع الافكار الفلسفية التي أبعدت الناس عن رسالة الدين في رفض الخنوع والخضوع لاي سلطة غير سلطة الحق والعدل، فكانت الافكار التي أبعدت الناس عن مواجهة المتسلطين.


الثقافة اذن لابد ان تدرس من جذورها، ولابد من تقصي تلك الجذور ومعرفة منابعها واهدافها ؛ سيما ونحن نجد اليوم - ومع الاسف الشديد - ان تيارات من الثقافة الهيلينية قد تسربت الى كثير من الكتابات، بل وحتى بعض الكتب الدينية عبر هؤلاء الفلاسفة، ولكن علينا أن نعرف أن لاعلاقة بين القرآن الكريم وبين هذه الثقافات. إذ لا علاقة بين القرآن والجاهلية، لان القرآن نور الله ؛ لانه كتاب الله، وهذه الثقافات ليست إلاّ مجموعة من خرافات بني البشر ومن وحي الشيطان.


شيخ الاشراق والثقافات الدخيلة :


البحث في جذور التفكرات الدخيلة في الاسلام يستوعب مجلدات عدة، لكن التركيز على دراسة شخصية روادها الاوائل كالحسن البصري وواصل بن عطاء اللذين استوفينا جانباً من شخصيتهما فيما سبق، يعطينا تصوراً واضحاً عن الارضية التي قامت عليها الافكار الفلسفية في أوساط المسلمين. وهنا نبحث عن مؤسس فكرة الاشراق بين المسلمين ؛ وبالذات في البلاد الشرقية كايران والعراق وسوريا وتركيا وهو شهاب الدين السهروردي، شيخ الاشراق الذي تأثرت به الفرق الصوفية كما تأثر به الفلاسفة الاشراقيون مثل ملا صدرا الشيرازي. ([28])


لقد طاف السهروردي البلدان، حيث عاش فترة في زنجان ثم ذهب الى اصفهان ودرس فلسفة ابن سينا، ومن هناك ذهب الى آذربايجان ثم الى حلب حيث القى رحله هناك متقربـاً الى حاكمها الملك الظاهر ابن صلاح الدين الايوبي، إلا أنه جوبه بمعارضة من قبل الفقهاء الذين كانوا يحذرون من عودة الحركات الباطنية، فكان نتيجة لتلك المعارضة ان كفّروه للاتهامات التي وجهت اليه من قبيل انه يكفر بختم النبوات بالنبي وبإمكانية ان يبعث الله تعالى نبياً جديداً بعد خاتم النبيين صلى الله عليه وآله. ونحن لا نستبعد ذلك من خلال افكاره، وان كان بعض المؤرخين ينفون عنه هذه التهمة. وبالتالي كانت النتيجه ان قتل السهروردي بامر الملك الظاهر، ومن هنا اطلق عليه لفظ المقتول، واطلق تلاميذه عليه كلمة الشهيد. غير ان شيخ الاشراق هذا الذي قتل في الثلاثينات من عمره كان له الاثر السلبي البالغ في الثقافة الاسلامية، لذلك يجدر بنا ان نقف قليلاً عند افكاره.


كان السهروردي متأثرا بثلاث شخصيات هم افلاطون وزرادشت وهرمس الذي يكاد يكون مجهولا لدى الكثير بل لدى المْؤرخين ايضا، حيث يقولون ان هرمس هذا كان حكيما كبيرا في التاريخ، بل وبعض المسلمين يدّعون ان هرمس هو النبي ادريس. غير ان هذا الادعاء بعيد عن الحقيقة كل البعد، لان افكار هرمس بعيدة عن افكار النبي ادريس، وهي بالتالي بعيده عن افكار القران الكريم التي هي بدورها تعبير عن افكار كل رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام. وهذا يشبه ادعاء البعض نبوّة افلاطون الذي هو بدوره خطأ كبير، لان افكار افلاطون بعيدة عن الافكار التي جاء بها القرآن الكريم.([29])


وربما تتجلى لنا الافكار التي تأثر بها شيخ الاشراق من خلال بعض عبارات كتاب له حيث يقول: "كانت في ايران القديمة امة تدار من قبل الله، وحكماؤهم الشامخون كانوا يختلفون كليا مع المجوس، واني سجلت الاصول السامية لعقائدهم التي هي أصالة النور، وقد كملتها تجربة أفلاطون الى مرحلة الشهود، وذلك في كتابي المسمى بحكمة الاشراق، ولم يسبقني الى هذا العمل أحد".


فالذي يبدو واضحاً من هذا القول ان هذا الرجل قد تجاوز رسالة الاسلام وارتبط بالفرس القدماء، وهذه الحقيقة يؤكدها الفيلسوف المعروف الملا صدرا الشيرازي حيث يقول: "الرجل - يعني شيـخ الاشـراق السهروردي - كان متأثـراً


بفلسفة النور عند المجوس".


هذا من جانب، ومن جانب آخر فان هذا الرجل كان منهزماً نفسيا امام الثقافات الاغريقية. فمن خلال تعبيراته نستطيع ان نقف على حقيقة وطبيعة هذا الجانب من شخصية السهروردي الذي يقول: "شاهدت ارسطو وقد ترآى لي شبحاً فسألته ما رأيك في أفلاطون ؟ ويجيبه - شبح ارسطو الذي مات قبل سهروردي بقرون متطاولة - بأن افلاطون هو اكبر فيلسوف واعظم عارف، وبأنه مؤسس الثقافة الانسانية". ويسرد سهروردي عن لسان شبح ارسطو فضائل لا تحصى عن أفلاطون.


ثم ان شيخ الاشراق يسأل أرسطو عن مدى فهم الفلاسفة المسلمين لافلاطون، فيجيب شبح أرسطو - على لسان السهروردي طبعا - ان مدى فهم الفلاسفة المسلمين لافلاطون كنسبة الواحد الى الألف. وهذا النقل المستوحى من شيخ الاشراق، يظهر مدى ذوبان الرجل في الافلاطونية، فيحاول ان يظهر ان افلاطون هو القمة الشامخة في واقع الفلسفة، وانه ليس لدى الفلاسفة المسلمين شيء. فهو ينقل ايحاءً ورؤيا عن ارسطو لتبريرما يذهب اليه، وما حكاه عن أفلاطون ليس وحياً منزلاً عبر شبح أرسطو، بل هو في الواقع تعبير عما يدور في خلد السهروردي. لأنه كان متصاغراً أمام أفلاطون، حتى قيل : ان السهروردي من أكثر فلاسفة المسلمين الذين صرفوا أوقاتهم في تفسير كلمات أفلاطون.


هكذا نعرف مدى تأثرسهروردي بالافكار الاغريقية، تلك الافكار التي لم ينج منها الكثير من الفلاسفة المسلمين. فالفارابي مثلا كان متأثرا وبصورة عميقة بالفلسفة الهيلينية وبالتالي بأفلاطون، فحيث رأى الفوارق الكبيرة والاختلاف العظيم بين افكار كل من افلاطون وأرسطو، وحيث وجد ان افلاطون يقول بالاشراق وانه يقول بعالم المثل ويقول بالفيض بينما يخالفه ارسطو في كل هذه المقولات وفي غيرها ايضا؛ ولانه كان يقدس الفلاسفة الأغريق جميعاً لم يكن فارابي يتصور وجود مثل هذا الاختلاف في مقولات حكيمين شامخين عظيمين (افلاطون وارسطو) ومن هنا فقد اخذ على عاتقه التوفيق بين أقوالهما وذلك بجمع افكارهما وهكذا ألّف كتاباً يفسر فيه كلمات افلاطون بما يناسب افكار أرسطو، ويفسر كلمات ارسطو بما يناسب أفكار أفلاطون. وسماه "الجمع بين رأيي الحكيمين الالهيين أرسطو وأفلاطون".


لعل هذا غريب، ولكن الاغرب منه انه سماهما بالالهيين، وأرسطو كما هو معروف ليس حكيما إلهيا. ولعـل الفارابي انما جنح الى هذه التسمية لاعتماده على كتاب موسوم بكتاب " الالهيـات "، لاحد الكتاب في القرن الثالث للميلاد - وليس قبل اربعة آلاف عام - وقع هذا الكتاب في ايدي بعض العرب الذين لم يكونوا يعرفون مؤلفه فنسبوه الى أرسطو، وكان ان اعتمده الفارابي، وكان منه ماكان من الجمع بين النقيضين.


وليس الفارابي وحده الذي انتهج هذا الخط، بل السهروردي عمل به أيضاً. فتلك الخلسة السهروردية -التي رأى عبرها شبح ارسطو!- ليست إلاّ تعبيراً عن هذا المنطق. ولعل البعض يقول -كما يلحظ ذلك من كتاب "اصول الفلسفة الاشراقية " لمؤلفه علي ابو ريان - ان المصدر الاساسي الذي اخذت عنه الاشراقيـة هو نفس المذهب الذي تاثر به ابن سينا والفارابي من قبل - واعني الافلاطونية الجديدة -وكذلك عن كتابي " اثلوجيا" و" الالهيات" المنسوبين خطأ


الى فلوطين تلميذ أمونيوس مؤسس الافلاطونية الجديدة. ([30])


اننا حين نجد أحد المؤلفين المعاصرين يكتب كتاباً عن السهروردي ويسميه الفيلسوف الشهيد ويفصل القول عن شخصيته، فإننا نقف متسائلين حينما نعرف وباعتراف السهروردي نفسه بأنه انما كان يستقي أفكاره من هرمس وزرادشت وافلاطون، نتسائل: كيف يمكن أن يكون هذا شهيداً من أجل الاسلام. بينما شهداء الاسلام الذين سقيت بدمائهم شجرة الاسلام أمثال زيد، ويحيى بن زيد، ومحمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم أولاد عبد الله بن الحسن، والحسين شهيد فخ وغيرهم لانجد من يكتب عنهم، فضلاً عمّا يُغمز به هؤلاء الشهداء ويؤخذ عليهم اجتهادهم في سبيل إقامة الحق وطلب الرضا لآل محمد صلى الله عليه وآله.

الفصل الخامس : سمات الفلسفة البشرية


بسبب خطأ الانسان في فهم الخلق وفي معرفة كيفية الخلق ؛ وبسبب دخول بعض النظريات الفلسفية القديمة في الثقافة البشرية، فان الكثير من الناس ذهبوا مذاهب باطلة بعيدة عن الحقيقة. ولكي نتبين صبغة هذه المذاهب، لابد لنا ان نبين سمات الفلسفة البشرية:


الجمود في فهم الحياة:


تعتقد الفلسفة البشرية أن الحياة جامدة وليست متحركة. وذلك لأن الفلسفة حين لم تكن تؤمن بقدرة الله سبحانه وتعالى اللامتناهية، فانها تعتقد بأن قلم التقدير قد جف ولايستطيع ان يغيّر شيئاً. وهذه النظرة الواهية مخالفة لوجدان الانسان ؛ ولما يصلح الانسان ؛ بل هي نظرة رجعية متخلفة، لان الانسان إذا اعتقد بأن ترتيب الطبيعــة وتقديرها قد انتهـى، فذلك يعني عدم استطاعته التأثير فيها بأي شيء والاستسلام لمقاديرها. وهذا يعني القدرية، وبتعبير آخر يعني ان علـى الانسـان ان يخضع ويستسلم للحوادث التي تترى عليه شاء ام أبى، وليس له


ان يغير شيئاً فيما يجري عليه.


سمة الجمود هذه هي تفكر يهودي محض ؛ فاليهود يقولون إن الله قد فرغ من الأمر، « وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ» (المائدة/64) وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وآله يهود هذه الامة، وحين سئل الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله عن يهود هذه الامة قال : القدرية، اي القائلون بأن كل ما جرى ويجري قد قدره الله ولا تغيير فيه. وقد حاول بعض الفلاسفة التحرر من هذه القدرية ولكنهم لم يستطيعوا، وذلك لان القدرية تشكل عمق الفلسفة وجذرها الرئيسي؛ بل إن جوهر الفلسفة جوهر قدري، لانها تدّعي ان الله سبحانه وتعالى على قدرته وعظمته وجلاله وكبريائه اللامتناهي - سبحانه عما يصفون - عاجز عن تغيير الكون، فكيف بالعبد إذن ؟


وعلى سبيل المقابلة لا المقارنة، ولكي نبين عمق مأساة البشرية حينما تترك تعاليم الله سبحانه وتعالى، وتتجه نحو الافكار المتهرئة ؛ لابد لنا ان نشير الى بعض المعالم التقدمية التي جاء بها الاسلام العظيم في مقابل الافكار المتخلفة التي جاءت بها الفلسفة البشرية.


/ 8